قد يبدو صحيحا أن أوقات الأوبئة تتطلب دولة قوية، حيث يجب تنفيذ تدابير على نطاق واسع، وذلك مثل الحجر الصحي وعمليات الإغلاق الإلزامية وتتبع الأشخاص من خلال تحديد الموقع الجغرافي أو حتى الضبط العسكري. ومع ذلك يتساءل المواطنون في جميع أنحاء العالم عما إذا كانت حكوماتهم تراعي الصالح العام وهي تتخذ هذه التدابير.
لقد بدا أن بعض الحكومات بقدر ما تتخذ من إجراءات لمحاربة تفشّي فيروس كورونا المستجد، بقدر ما تستخدم حالة الطوارئ الصحية لتقييد الحقوق والحريات وتوسيع السلطات المركزية، وضمن هذا السياق ظهر رد الحكومة المغربية على الجائحة مقلقا وغير متناسق ومرتبا لردود أفعال عكسية.
كانت البداية مع انحرافات في ممارسات أجهزة السلطات المحلية أو الأمنية التي ربما بدت واردة في ظل سياق الأمننة الممهور بفرض إجراءات استثنائية لفرض حالة الطوارئ الصحية ولكن مع ذلك غير مبررة، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى نهج قمعي تشريعي من الحكومة وذلك مع مشروع القانون 22.20 المتعلق بالرقابة على الأنترنيت والذي عرف إعلاميا ب”قانون تكميم الأفواه”.
عمليا، هناك ثلاث طرق عبر العالم لتنفيذ هذا النوع من الرقابة، إما من خلال الرقابة التقنية لتنظيف المحتويات الرقمية مثلا بإزالة المواد الإباحية والشائعات والتحريض على العنف أو الكراهية. أو من خلال قانون جنائي ينص على معاقبة تلك الأفعال أو حتى لحماية حقوق التأليف والنشر للمواد المنشورة عبر الإنترنت. أو كذلك من خلال قانون خاص قد يكون مبررا في حالات قصوى مثل سياق الطوارئ الأمنية على خلفية مكافحة التطرف كما ذهبت إليه بعض الدول الاوربية، ومع ذلك قررت أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن مثل هذه التشريعات يجب أن تأخذ في الاعتبار متطلبات المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من حيث أن تستجيب جميع القوانين التي تحد من حرية التعبير لحاجة اجتماعية ملحة، ويتم تحديدها بشكل واضح وضيق، وتكون متناسبة في النطاق والعقوبات.
إن مشروع قانون الرقابة على الأنترنيت في السياق المغربي لم يدرك تماما الخط الرفيع بين حرية التعبير والرقابة، وذلك على خلاف الممارسة الأوربية التي استخدمت مصطلح “الأمن الديمقراطي” بموازاة جهودها في مكافحة أقصى درجات الضرر التي يمكن أن يسببها محتوى الويب من قبيل خطاب التطرف الإلكتروني. حيث الجدل حول الرقابة في المجتمعات الديمقراطية عادة ما يركز على درجة الضرر المسموح به، فحتى بعض أفعال الكلام التي تتسبب في ضرر غير مبرر، يمكن تبريرها، ما بقيت في حدود الضرر الناجم عن الخطاب، ولم تمتد إلى ضرر ناجم عن انتهاك الحظر العام بموجب الرقابة.
ذلك أن خلفية مشروع القانون المفترضة في تقييد الحريات الرقمية هي أقرب إلى الاستراتيجية التي اعتمدتها الصين تحت غطاء “السيادة السيبرانية” حتى وإن اتجهت هذه الأخيرة إلى تغليف الرهانات الداخلية للسيطرة على الأنترنيت بأخرى خارجية. حيث ظلت الحكومة الصينية تتحكم دائمًا في الوصول إلى أي محتوى يعبر حدودها الرقمية من خلال مجموعة من التقنيات المتغيرة التي تطورت بمرور الوقت والمعروفة باسم “جدار الحماية العظيم”. لكن سرعان ما تحولت هذه الاستراتيجية إلى أداة في يد المحاكم الصينية لمتابعة المعارضين على الإنترنت بالسجن، وهكذا صارت وسيلة فعالة لتشجيع الرقابة الذاتية لملايين مستخدمي الإنترنت في الصين الذين قد يتم إغراؤهم لانتقاد الحكومة. فقد سمحت هذه الممارسة، المعروفة بالصينية باسم “خنق الدجاج لتخويف القرد” للنظام القضائي بكبح حرية التعبير عبر الإنترنت من خلال الاستخدام المحدود للمتابعة لحالات مختارة لإرسال رسالة أوسع نطاقا بين جمهور المبحرين الرقميين. وهو ما جعل في نهاية المطاف وجهات نظر الحزب الشيوعي الحاكم في البلاد أقوى صوت في الفضاء الإلكتروني.
صحيح أن مشروع القانون المغربي يتضمن آثارا لقوى السوق كتعبير عن رأسمالية القانون وذلك حينما ينص على تجريم الدعوة إلى مقاطعة المنتوجات التجارية، ولكنه في العمق يريد تأصيل قواعد ثقافية للرقابة الذاتية كأشكال قمع قوية تتصرف بتوافق مع الدولة. فهو تجسيد لنظرية الرقابة الجديدة التي توسع القمع إلى ما وراء الدولة لتشمل مجموعة من الجهات الفاعلة (قوى السوق) والعمليات الهيكلية (الرقابة الذاتية)، إنه يأتي بمنطق معاكس تماما لجوهر الأنترنيت المفتوح، حيث يريد أن يخنق الانفتاح الذي هو فقط ما يجعل الأفكار قابلة للاتصال. فهو يريد التحكم في المعلومات، أولا على خلفية أهميتها في صراع الدولة والمجتمع، حيث ظهرت قرارية مضادة هي صناعة القرار الرقمي التي يقودها رواد الأنترنيت، وثانيا باعتبار المعلومات قوة تمكينية في أيدي الناس، حيث التدفق الحر والمفتوح للأفكار والأخبار والآراء هو ما يغذي الديمقراطية التداولية.
لقد أدى الأنترنيت وأجهزة الاتصال الشخصية إلى منطقة جديدة من المواجهة بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في الاحتجاج أو التعبير عن معارضتهم، وأصبح المجال الرقمي ساحة المعركة الرئيسية لنضال الرأي العام، ولذلك جاء مشروع القانون كجهد للسيطرة الكاملة على مساحة جامحة تهدد طرفا واحدا هو سلطة الدولة. حيث الغرض من برنامج الرقابة الذي يريد إنزالها هو تفكيك العمل الجماعي عن طريق قطع الروابط الاجتماعية التي تجعل ظهور حركات جماعية إفتراضية قد يمتد الى الشارع.
وهكذا فمشروع القانون المأسوف عليه إذ يسعى لإخضاع التحركات المرتبطة بالفعل الجماعي في الفضاء الإلكتروني وجعلها تخضع للرقابة خاصة حينما يكون محتواها مسيسا أو ينتقد الدولة، فإنه يقدم الرقابة كعملية قسرية صريحة وكفعل من سلطة تعسفية لا تتوجس من إنتهاك حقوق التواصل الطبيعية للفرد.
لقد استغلت الحكومة المغربية فرض حالة الطوارئ الصحية لتنشيط الرقابة على الحريات ومحاولة استدامتها في مشروع القانون المذكور، حيث تعوّد المغاربة مع الوباء أن يكونوا حذرين بشكل خاص بشأن كيفية التحكم في أجسامهم وإيماءاتهم العفوية، وسوف لن تعود الدولة وحدها التي ستسعى للسيطرة علينهم، بل يجب أن يتعلموا كيف يعقلنوا تفكيرهم وتعبيراتهم، ويسيطروا بأنفسهم على تفاعلاتهم عبر الواقع الافتراضي.
لكن يجدر التنبيه في ضوء الاستجابة السلطوية لأزمة وباء كورونا على المستوى المحلي مع ما ستطرحه من تأثير طويل المدى على المسلسل الديمقراطي، أن انتشار وباء كورونا في عمقه ناتج عن أزمة حرية تعبير، ذلك أن “لي وين ليانغ” الطبيب الذي اكتشف لأول مرة وباء الفيروس التاجي المستجد أخضعته السلطات الصينية للرقابة، ولذلك ما لم يتم احترام حريات الناس فإن مثل هذه الأزمات لا يمكن إلا أن تستمر في الحدوث.
*باحث أكاديمي
الحريات المقننة، اوبالأحرى الحريات المكممة،هي حريات ملزمة او اجبارية.غايتها ارضاء جهة معينة لتجاوز السخط السياسي.لا رفع الحجر عن المواطنين.
مقال في المستوى، مع احترامي لك لا وجود لفيروس كورونا و إنما هي مسرحية تمثلها دول مافيا على أخرى للوصول إلى أهداف مسطرة مسبقا. ولكن يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين.
ما شاء الله على أستاذتنا الفاضل، إذا كانت الأحزاب تتحين الفرص عندما تفتح النافذة السياسية لظروف سياسية واقتصادية واجتماعية فإن سلطة الدولة العميقة كذلك تستغل اذنى فرصة من أجل الضغط على حكومة الواجهة عبر المؤسسة التشريعية لتمرير القوانين التي بها سوف يتم حماية رؤوس الاموال الرجال الأعمال المغاربة والدوليين.
مقال يضع اليد على الجرح انكماش حرية التعبير هو انكماش لكل نجاح حتى على الاوبئة و الكوارث