یعرف المغرب مثل سائر دول العالم تفشى وباء فیروس كورونا كوفید 19 المستجد، وذلك منذ تسجیل أول حال في البلاد بتاریخ 02 مارس 2020 ،ونظرا للخطورة التي یكتسیھا ھذا الوباء على الصحة العامة للمواطنین، عملت الدولة منذ ذلك الحین إلى اتخاذ مجموعة من التدابیر الاحترازیة، تروم منھا الحد من تفشي ھذه الجائحة وضمان الأمن العام الصحي، من خلال إصدار مرسوم بقانون رقم 292.20.2 یتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحیة وإجراءات الإعلان عنھا، واتخاذ جمیع التدابیر اللازمة التي تقتضیھا ھذه الحالة، وذلك بموجب مراسیم ومقررات تنظیمیة وإداریة أو بواسطة مناشیر وبلاغات، وتعبئة جمیع الوسائل المتاحة لحمایة حیاة الأشخاص وضمان سلامتھم. وھو ما یوسع من صلاحیة الحكومة في ھذه الظروف، حیث تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتي بمقتضاھا أثرت على الحركة العامة والسیر العادي لمختلف المرافق العمومیة الاقتصادیة والاجتماعیة والإداریة، وانعكس بالتالي على استمراریة المرفق العام في تقدیم الخدمات للمواطنین وتحقیق غایاتھم ومصالحھم. وتعتبر الإدارة المغربیة من بین المرافق الحیویة التي تأثرت بتداعیات تفشي الوباء، ومن التدابیر المتخذة في ظل حالة الطوارئ الصحیة، وھو الأمر الذي یثیر مجموعة من التساؤلات حول : – إلى أي حد یمكن ضمان استمراریة الإدارة في ھذه الظروف الاستثنائیة التي تعیشھا البلاد؟ – ما ھو واقع الإدارة المغربیة في ظل حالة الطوارئ الصحیة ؟ 1 .وضعیة الإدارة المغربیة في حالة الطوارئ الصحیة – ھل یجسد نظام العمل عن بعد بروز ملامح إدارة عمومیة حدیثة؟. لقد تطور دور الدولة في المجتمعات الحدیثة بالقدر الذي جعلھا السلطة المھیمنة المنسقة لكافة الھیئات والمرافق والخدمات، دور تؤدیھ من خلال أجھزتھا السیاسیة والتنفیذیة والإداریة والتقنیة، ومن ھنا تبرز أن السمة اللازمة والمتمیزة في الدولة الحدیثة كونھا دولة مؤسسات، حیث أضحى بناء الدولة وتأصیل سبل النمو والتطور فیھا یعتمد أساسا على كفاءة وفعالیة مؤسساتھا وأجھزتھا العمومیة. كما أصبح من الأكید الیوم، أن الرفع من المستوى الاقتصادي والاجتماعي مرتبط بكفاءة وقدرات الإدارات العمومیة التي تعتبر أداة تنفیذیة لسیاسة الدولة واختیاراتھا الاقتصادیة والاجتماعیة، والتي تقع على عاتقھا مھمة أساسیة تتمثل في تحقیق التنمیة في كل مظاھر النشاط الإنساني. وبالرغم من الإجراءات والتدابیر الاحترازیة التي تبناھا المغرب في ضوء حالة الطوارئ الصحیة، قصد الحفاظ على الصحة العامة من خطر تفشي فیروس كورونا المستجد، ولما لھا من انعكاس مباشر على السیر العادي لمختلف المؤسسات والمرافق العمومیة، تعیش الإدارة المغربیة في ظل ھذه الظروف الاستثنائیة ركودا وانكماشا واضحا ووثیرة بطیئة على مستوى أدائھا للخدمات الاعتیادیة التي تقدمھا للمرتفقین، حیث أن جمیع الإدارات المغربیة- باستثناء تلك التي لھا علاقة مباشرة نظرا لطبیعة مھامھا بتدبیر جائحة كورونا، كإدارات مرافق الأمن والصحة والداخلیة- تشھد تغیرا مرحلیا بخصوص الأداء العام لھذه الإدارات، والمتعلقة بـ: – تغیر الزمن الإداري: حیث أن مختلف الإدارات العمومیة قد غیرت زمنھا الإداري بما یتماشى مع الوضعیة الراھنة في إطار عملیة الملاءمة، إما بتغییر الزمن المرتبط بأداء خدماتھا للمرتفق، أو الزمن المرتبط بالموظف عند تأدیة مھامھ. – تغیر منھجیة عمل الإدارة: في إطار ضمان السلامة الصحیة للموظفین، تبنت جل الإدارات المغربیة مقاربة ومنھجیة جدیدة لتنظیم العمل الإداري، لاسیما على مستوى توزیع العمل بین الموظفین والمستخدمین، من خلال: ضبط عملیة التناوب في الحضور بین الموظفین في المرافق العمومیة والإدارات دون أن یؤثر ذلك سلبا على السیر العادي لتلك للمرافق، وكذا تنظیم مداومات بالنسبة لبعض المرافق العمومیة التي تقدم خدمات حیویة، علما أن مختلف الإدارات قد حَدّت من استقبال المرتفقین بشكل مباشر. وللحیلولة دون تكریس الاختلاط والتجمعات داخل الإدارة المغربیة، تم إقرار الحد من الاجتماعات إلا عند الضرورة وبموافقة مسبقة من رئیس الإدارة، كما أن تغییر منھجیة عمل الإدارة برزت بصورة واضحة في اعتماد مقاربة العمل عن بعد بواسطة الوسائل الرقمیة. – تأثر مردودیة و نجاعة أداء الإدارة : لا شك أن الظروف الطارئة المتعلقة بالحالة الوبائیة للبلاد وما صاحبتھ من تداعیات انعكست على جودة ومردودیة الإدارة، ھو أمر مرتبط بتراجع مختلف الأنشطة والحركة العادیة سواء للمواطنین وللمرافق والإدارات العمومیة، وبالتالي تسجیل تقھقر مردودیة أداء ھذه المؤسسات من حیث حجم ونوعیة وجودة الخدمات المقدمة، والتي تتطلب الالتزام بقواعد التكامل والتنسیق بین برامج الإدارة، وإشباع الحاجیات الحالیة والمستقبلیة للمرتفقین في الزمن المحدد، وبجودة عالیة وبشكل ثابت ومستقر، ویواكب المتغیرات التكنولوجیة والسیاسیة والاجتماعیة للبلاد. ومن خلال ھذه الممارسات التي عرفتھا الإدارة المغربیة، یستشف أن الھدف الأساسي في ظل ھذه الظروف ھو ضمان استمراریة المرافق العمومیة في أداء مھامھا بانتظام واضطراد، مع الحرص على توفیر الحد الأدنى من معاییر جودة ونجاعة أداء الإدارات العمومیة. 2 .الإدارة المغربیة ومبدأ الاستمراریة: إن الوضعیة الاستثنائیة التي یعیشھا المغرب جراء تفشي وباء كورونا المستجد، فرضت علیھ اتخاذ مجموعة من الإجراءات ذات الطابع الوقائي والتي تحد من استمراریة سیر المرافق العمومیة بانتظام واضطراد حمایة للأمن الصحي للمواطنین والمواطنات، غیر أن إعلان الحكومة لحالة الطوارئ الصحیة لا یعني إعفاءھا من واجب تقدیم الخدمات الضروریة للمواطن، فالحكومة ملزمة مقابل ما تفرضھ علیھ من ضرورة احترام التدابیر التي تتخذھا في إطار حالة الطوارئ، أن تضمن استمراریة خدمات المرافق العمومیة الموجھة لفائدة المرتفقین، وھو ما یفید أنھ لا یمكن توقیف وتعطیل مبدأ استمراریة الإدارات والمرافق العمومیة الحیویة، مع الحرص على تأمین الخدمات التي تقدمھا للمرتفقین. وطبقا لمقتضیات المادة الثالثة (3 (من مرسوم بقانون متعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحیة، الخدمات التي تقدمھا للمرتفقین. أنھ: لا تحول التدابیر المتخذة المذكورة دون ضمان استمراریة المرافق العمومیة الحیویة، وتأمین فتدخل الدولة من أجل ضمان ھذه الاستمراریة یكون في إطار تحقیق التوازن بین المتطلبات والحاجیات الضروریة للمواطنین من خلال بعض المرافق العمومیة، وحفظ النظام العام الصحي الذي یعتبر أولویة وطنیة في ھذه الظروف. ومن ھذا المنطلق، فإن الھاجس الأساسي للإدارة المغربیة ھو ضمان الاستمراریة في أداء الخدمات، مما یثار سؤال جوھري في ھذا الباب متعلق بكیفیة ضمان السیر العادي لعمل الإدارات والمرافق العمومیة بانتظام. 3 .العمل عن بعد بالإدارة العمومیة: إجراء ظرفي أم مقاربة مستمرة لقد اتجھت الحكومة إلى ضمان مبدأ استمراریة عمل الإدارة العمومیة مع الأخذ بعین الاعتبار التدابیر والإجراءات الاحترازیة لمواجھة تفشي وباء كورونا المستجد، وذلك بموجب منشور لوزارة الاقتصاد والمالیة وإصلاح الإدارة- قطاع إصلاح الإدارة، رقم 2020/3 الصادر بتاریخ 15 أبریل 2020 متعلق بإعادة تنظیم العمل بإدارات الدولة، وذلك من خلال تطویر وتنویع الوسائل المتاحة للعمل عن بعد، بما یضمن استمراریة العمل بالمرافق العمومیة مع ضمان السلامة الصحیة للموظفین والمرتفقین. وقد أصدرت الوزارة المعنیة بإصلاح الإدارة، دلیلا یھدف إلى تحدید التدابیر الأساسیة الواجب اتخاذھا من قبل الإدارات العمومیة بغیة تطبیق نظام العمل عن بعد، وھو ما یُستشف منھ أن الإدارة المغربیة قد انتقلت (مرحلیا وبشكل جزئي ومؤقت) من منھجیة العمل الحضوري للموظف داخل مقر المؤسسة، إلى اعتماد مقاربة العمل عن بعد، والذي یتأسس على منح الموظف أو المستخدم إمكانیة تأدیة واجباتھ الوظیفیة سواء بشكل جزئي أو كلي من مواقع مختلفة وبعیدة عن مقرات عملھم المعتادة. وتجدر الإشارة، إلى أن تبني ھذه المقاربة لا تنطوي على جمیع إدارات الدولة، فھي مقرونة بمراعاة طبیعة وخصوصیة مھام بعض ھذه الإدارات، مما نستنتج معھ أن العمل عن بعد یخضع لجملة من الضوابط الأساسیة والتي تجسد اختیارات التدبیر الإداري المعتمدة، والمرتبطة أساسا بـ: – السلطة التقدیریة للإدارة في مدى اعتماد العمل عن بعد؛ – تدبیر وضبط الزمن الإداري ؛ – تدبیر الموارد البشریة؛ – ضبط وتقییم العمل الإداري؛ – توفیر الوسائل التقنیة والتكنولوجیة اللازمة لإنجاز العمل عن بعد. إن اعتماد الإدارة المغربیة على آلیة العمل عن بعد، لا یمكن أن یتجسد بالصورة المطلوبة وتحقیق نتائجھ المتوخاة، إلا في إطار احترام التزامات جمیع عناصر ھذه العملیة القائمة بین الإدارة والموظف، وذلك في نطاق مبدأ التوازن. غیر أن ما یثار في اعتماد العمل عن بعد ھو حداثة عھد الإدارة المغربیة بھذه المقاربة، حیث لا توجد أي إستراتیجیة مسبقة لإدراج مقاربة العمل عن بعد في الظروف العادیة، حتى یتسنى تنزیلھا بالشكل المطلوب في حالة الظروف الطارئة، مما یعني أن كل من الإدارة والموظف باعتبارھما قطبي ھذه العملیة، قد تعترضھما عدة مشاكل وإكراھات بخصوص ضمان جودة العمل عن بعد، إما بسبب ضعف الإمكانیات التقنیة أو ضعف التكوین لدى الموظفین المعنیین بتنزیل ھذا الإجراء. وعلیھ، یمكن القول بأن العمل عن بعد ھو إجراء بدیل وظرفي لضمان استمراریة المرافق العمومیة، ویمكن اعتباره مقاربة جزئیة لا تتسم بالشمولیة، ومقاربة مؤقتة ومرحلیة مرتبطة بتأثیر جائحة كورونا على الحیاة العامة للدولة والمجتمع وانعكاساتھا على الإدارة العمومیة، ومتى انتفت ورُفِعت الأسباب المنشئة لھا رُفعت معھا الضرورة الداعیة إلى تبني ھذه المقاربة. كما أن اعتماد العمل عن بعد یعني في مضمونھ الانتقال إلى استعمال أسالیب الرقمنة بالتنزیل الفعلي للإدارة الإلكترونیة والرقمیة، حیث أصبحت مختلف الإدارات العمومیة المغربیة في ظل ھذه الأزمة التي تعیشھا البلاد تقدم خدماتھا للمرتفقین باعتماد التقنیات الرقمیة. حیث عملت الحكومة على تنزیل إستراتیجیة العمل عن بعد كإجراء وقائي فرضتھ حالة الطوارئ الصحیة، وذلك عبر تطویر الخدمات الرقمیة واستعمالھا في تقدیم مختلف خدماتھا، إذ صدرت في ھذا الشأن عدة قرارات تنظیمیة تضبط عملیة العمل عن بعد، بواسطة استخدام جمیع الوسائل التكنولوجیة والرقمیة الممكنة ( البرید الإلكتروني، المنصات الرقمیة، البوابات الإلكترونیة، الخدمات الرقمیة….الخ) وتوظیف تكنولوجیا المعلومات والاتصال من أجل ضمان استمراریة العمل الإداري ورفع نجاعة أداء المرفق العام والارتقاء بھ إلى مستوى النجاعة. فھل تستجیب الخدمات المقدمة عن بعد (خدمات الإدارة الرقمیة) لمعاییر الجودة والشفافیة ومبدأ تكافؤ الفرص والمساواة أمام المرفق العام في ظل ھذه الظرفیة الاستثنائیة ؟. إن استخدام الوسائل التكنولوجیة وإقرار الخدمات الرقمیة عن بعد لاسیما في الإدارات العمومیة الھدف منھ ھو ضمان استمراریة سیر ھذه المرافق بدرجة أولى، وبالرغم من كون الدستور المغربي أقر بضرورة خضوع المرافق العمومیة لمعاییر الجودة والشفافیة، إلا أن مسألة نجاعة ھذه الخدمات المقدمة من طرف الإدارة في ظل ھذه الظرفیة تبقى نسبیة نوعا ما لاعتبارات متعددة، منھا ما ھو مرتبط بالمرتفق نفسھ، حیث لیس جمیع المواطنین قادرین على الاستفادة من الخدمات الرقمیة عن بعد، أو لاعتبارات متعلقة بطبیعة الخدمات الرقمیة المقدمة عن بعد، والتي قد تفتقد لمعیار الجودة. كما تجدر الإشارة إلى أن لیس جمیع الإدارات العمومیة قادرة على تلبیة حاجیات المرتفقین من خدماتھا بما یضمن جودة الأداء في ھذه الظرفیة وما صاحبتھ من إجراءات مشددة ومقیدة لحركة المواطنین، فمسألة النجاعة قد لا تكون محل مساءلة في ظل حالة الطوارئ، بقدر ما یتم التركیز على ضرورة ضمان استمراریة المرافق العمومیة في الأحوال الاستثنائیة كما الظروف العادیة، بما یتیح لجمیع المواطنین تلبیة حاجاتھم العامة. وأخیرا، یمكن القول بأن الإدارة العمومیة المغربیة في ظل حالة الطوارئ الصحیة، تعرف نوعا من عدم التوازن في أداء مھامھا، وھو أمر ناتج عن الوضعیة الحالیة، وبالتالي یستوجب معھ التفكیر بضرورة وضع دراسة استشرافیة لمناھج عمل الإدارة في الظروف الاستثنائیة والطارئة، وملاءمة المقاربات المعتمدة مع طبیعة مھام كل إدارة، على المدى القریب والمتوسط والبعید، حیث یقتضي نظام الحكامة تدبیر المؤسسات الإداریة بشكل یستجیب مع جمیع الظروف والوضعیات، وفق مقاربة للإصلاح الإداري الشمولي.
دكتور في القانون العام والعلوم السیاسیة كلیة الحقوق- جامعة محمد الخامس أكدال- الرباط
تعليقات الزوار ( 0 )