Share
  • Link copied

هل تنجح الصناعة البحثية في خدمة التطبيع مع الاحتلال؟

ثمة حقيقة لا تزال تؤكد صدقيتها منذ توطين الكيان الصهيوني في أرض فلسطين إلى اليوم، فعلى الرغم من الدعم الأمريكي والأوروبي الذي حظي به هذا الكيان، وعلى الرغم من تواطؤ الشرعية الدولية معه ضد الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، فإنه يعيش أزمته وعزلته، ويسعى بكل الإمكانات للخروج من هذه الأزمة عبر التماس التطبيع مع الدول العربية والإسلامية بانتهاج مسالك متعددة، لم تثمر النتائج المرجوة رغم الاستثمار الضخم في عدد من الاستراتيجيات لإحداث ثقب في جدار الممانعة العربية.

وإذا كانت بعض الأنظمة العربية أقدمت على مواقف وقرارات تسجل في خانة التطبيع السياسي أو حتى الاقتصادي أو التجاري، فإن التقييم العام الذي تجريه مراكز الدراسات الصهيونية، تثبت كل مرة محدودية النتائج على هذا المستوى، والحاجة إلى إحداث طفرة قوية تخرج الكيان الصهيوني من عزلته السياسية في المنطقة.

السلام كمدخل للتطبيع

ثمة ملاحظة مفارقة وجب التنبيه إليها، فعلى الرغم من أن الدول العربية خسرت الحرب مرتين مع الكيان الصهيوني، في نكبة 1948 ونكسة 1967، إلا أن ربح الكيان الصهيوني للأرض، زاد من تعميق عزلته في المنطقة، وجعل إمكانية التطبيع معه عربيا من غير مبادرة سلام جدية تتأسس على الانسحاب من أراضي 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، مسألة مستحيلة.

ولأن ما يهم الكيان الصهيوني ليس الأرض فقط، وإنما التوسع والامتداد في المنطقة العربية، فإن حاجته إلى التطبيع السياسي صارت أكثر إلحاحا، وهو ما دفعه كل مرة لاستثمار محطات مهمة من مسلسل السلام من أجل الالتفاف على مقتضياتها، والخروج بمكسب التطبيع دون الوفاء بالالتزامات المقابلة التي تخص ثوابت الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية.

فقد تشكلت على طول المرحلة الممتدة بين “كامب ديفيد” و”مؤتمر السلام بمدريد” و”مؤتمر السلام بأوسلو” قناعة بأن ثمن التطبيع السياسي هو خطة سلام تنهي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فحاول الكيان الصهيوني أن يتجه إلى سياسة الأطراف بدل سياسة المركز، أي التفاوض مع أطراف من الصراع العربي ـ الإسرائيلي بدل التفاوض مع كل الأطراف المعنية لحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فتم الانفراد بمصر ثم الأردن، ولم تنجح جهود التفاوض مع المحور اللبناني والسوري، رغم محاولة فصل المسار بينهما. 

انتهى واقع مسلسل السلام إلى ما يشبه اتفاقيات أمنية، تلتزم فيها السلطة الفلسطينية بتأمين الكيان الصهيوني مقابل رواتب للموظفين في الضفة والقطاع، وتعرضت هذه الاتفاقات لهزات عنيفة من جراء سياسات الاستيطان الإسرائيلي والعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، مما كان ينتج عنه في الغالب انعطاف لتوحيد الجبهة الداخلية بين فتح وحماس وشحذ مختلف قوى المقاومة. ولم تنجح إسرائيل طوال هذه المدة في أن تحقق نتائج تذكر على مستوى استراتيجية التطبيع مقابل السلام، فانعطفت إلى التماس خبرة الصناعة البحثية لمساعدتها في اختراق العالم العربي، والتأسيس لقاعدة قوية للتطبيع مع الكيان الصهيوني.

الصناعة البحثية في خدمة التطبيع

من المفيد التذكير أن الصناعة البحثية الصهيونية مجسدة في مراكز الأبحاث ومستودعات التفكير الإسرائيلية تجمع أن الاتفاقات التي اندرجت في سياق مسلسل السلام لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي لم تثمر نتائج تذكر على مستوى التطبيع وفك عزلة الكيان الصهيوني، ولذلك حاولت أن تبذل جهدا كبيرا من أجل أن تكون أداة موازية في خدمة السياسة الإسرائيلية لتحقيق اختراقات مهمة في جدارات المقاومة والممانعة العربية.

في سنة 1996، كتب بريس مادي وايتزمان، مقالا بحثيا في مجلة مغارب، وتبنته جامعة تل أبيب ومركز موشي ديان، عن العلاقات الإسرائيلية ـ المغربية، حاول فيه أن يدرس تطور هذه العلاقة في التاريخ إلى عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله، ومع محاولته رصد بعض مؤشرات تطور هذه العلاقة على المستوى السياسي، إلا أنه أقر في الأخير بمحدوديتها وحاجتها لمزيد من التطوير، مذكرا بهذا الخصوص بخمسة عوامل يراها أرضية أساسية لبناء علاقات متينة مع الدول العربية:

1ـ اشتراك اليهود والعرب في جد واحد هو إبراهيم عليه السلام وابناه إسماعيل وإسحاق، وأن ذلك يمكن أن يؤسس للقاء دائم بين الطرفين على قاعدة التعايش والتفاهم.

2 ـ قدرة إسرائيل على المساهمة في تحديث العالم العربي وتحقيق تقدمه.

3 ـ مخاطر ديمومة الصراع بين العرب والإسرائيليين.

4 ـ الحاجة للتعايش والاندماج لتشجيع إسرائيل على الانسحاب من الأراضي المحتلة سنة 1967.

5 ـ الحاجة للحوار لحل مشاكل الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ثم كتب مادي ويتزمان أيضا دراسة سنة 2009 تحت عنوان “إسرائيل والعلاقات مع الدول المغاربية حقائق وإمكانات” وهي عبارة عن ورقة قدمت في مؤتمر إسرائيل والدول العربية: المصالح المتوازية، العلاقات، والاستراتيجيات، نظمه في حزيران (يونيو) 2009 في القدس المحتلة كل من مركز البحث العام في الشؤون الخارجية ومركز كونراد إدنهاور، ونشرت في شهر أيلول (سبتمبر) 2009، وذكر تحت عنوان: ما العمل؟ بالتفصيل الخيارات المطروحة لتحقيق اختراق مهم في المنطقة المغاربية لجهة التقدم في مسار التطبيع سواء على مستوى السياسات الإقليمية، أوعلى مستوى التعاون الأمني أو على مستوى التعاون في المجال الاقتصادي.

ومن المهم تسجيله بهذا الخصوص، أن الصناعة البحثية الإسرائيلية كانت دائما تقترح أن يمر التطبيع على يد وسيط أوروبي، تجري باسمه كل المعاملات الإسرائيلية، فعلى المستوى الاقتصادي والتجاري، تم توطين شركات إسرائيلية في أوروبا، حملت أسماء أوروبية، وكانت تتعامل باعتبارها شركات أوروبية مع دول العالم العربي، وكانت المؤشرات الرقمية الإسرائيلية تذكر هذه المعاملات منسوبة إلى الدولة الإسرائيلية، مما كان يخلق حرجا كبيرا للحكومات العربية، التي تواجه بأرقام إسرائيلية عن تطور حجم المعاملات الإسرائيلية معها، في حين تضطر هذه الحكومات للنفي، وتؤكد بأنها تتعامل مع شركات أوروبية، وليس شركات إسرائيلية.

وقد اقترح الباحث في مركز موشي دايان أن يتم تنويع مداخل التطبيع، وألا يتم وضع كل البيض في سلة التطبيع السياسي، فإلى جانب الأنواع المذكورة من آليات التطبيع الممكنة، اقترح مادي وايتزمان التطبيع على مستوى المجتمع المدني، وأن الأولى قلب المعادلة، وجعل التطبيع السياسي نتيجة، وليس مدخلا لأنواع التطبيع الأخرى، فتوقف في هذا المقال على أنواع كثيرة من التطبيع، ذكر منها التطبيع الاقتصادي والتجاري والثقافي والعلمي والرياضي والصحي وغيرها، والمثير في دراسته تركيزه على دور المجتمع المدني في تحقيق اختراق مهم للعالم العربي لفائدة التطبيع مع الكيان الصهيوني، واعتبر في دراسته أن أمام إسرائيل مساحات معتبرة لتوسيع الاتصالات مع مكونات المجتمع المدني بدول المغرب العربي سواء بشكل مباشر أو عبر وساطة مكونات ثالثة. 

وأشارت الدراسة إلى وجود انفتاح أكاديمي على إسرائيل، سواء بالنسبة للباحثين الذين يتواجدون داخل هذه الدول المغاربية أو الذين يستقرون في أوروبا، وشمال أمريكا، وبهذا الخصوص عددت الدراسة أكثر من سبعة خيارات لتحقيق هذا الهدف، مركزة على محورية أوروبا كوسيط لتجسير العلاقة بين المجتمع المدني العربي وبين إسرائيل، باعتبارها مركز الفعاليات الثقافية والعلمية والرياضية والأكاديمية التي يمكن أن تستقطب الطرفين، وتساهم في التأسيس لعلاقات ثقافية وعلمية وأكاديمية بين الطرفين حتى تزول الممانعات المفترضة من الجانب العربي.

وركز من ضمن خيارات التطبيع على دور الحركة الأمازيغية، وأنها الأقدر على تحقيق أعلى منسوب من التطبيع، وذلك لجملة اعتبارات أساسية، منها أن الأمازيغ ليسوا عربا، وأن هذا هو المدخل الضروري لاستبعاد المناهضة للكيان الصهيوني، فإسرائيل لها مشكلة مع العرب وليس مع الأمازيغ، واليهود عاشوا إلى جانب الأمازيغ في دول المغرب العربي في تعايش وتسامح دون أن يحصل بينهم أي خصومة أو مماحكة، وأن هذا التعايش والتسامح حصل قبل الإسلام، وأن ذلك هو ما يسمح ببناء علاقة متينة بين إسرائيل والحركة الأمازيغية، بل ذلك يمكن أن يكون أداة لمحاصرة الإسلاميين وإضعاف الحركة القومية العربية التي تناهض التطبيع.

وقد حاولت الصناعة البحثية أن تقدم هذه الرؤية الجديدة لتحقيق التطبيع معتمدة على منطقة المغرب العربي بعد محدودية نتائج التطبيع السياسي مع مصر والأردن، مركزة على دور فاعل ثالث “محايد” هو الحركة الأمازيغية، منطلقة من كونها تحمل خطابا يقطع مع الرصيد الحضاري التاريخي العربي الإسلامي، وأنها تتبنى خطابا يرتهن إلى النموذج الحضاري الغربي ويتبنى مفاهيمه الكونية، ويعتبر أن السمو للمواثيق الدولية على التشريعات الوطنية، ولأن اهتمامها وأولويتها تنصب على المشاكل الحقيقية للمنطقة، لا على قضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولأنها في الأخير لا تعادي إسرائيل ولا تناهضها، بل على العكس من ذلك تماما، فإنها حسب مركز موشي دايان، تبحث عن تأصيل الجذور الثقافية للحوار الأمازيغي الإسرائيلي، وأن ذلك يعتبر مدخلا لتعزيز مبادرات  للاتصال والتطبيع مع إسرائيل.



لكن على الرغم من كل هذه المحاولات، فإن النتائج تبقى جد محدودة وغير مؤثرة، فباستثناء زيارات لبعض الناشطين الأمازيغيين لإسرائيل فضلا عن زيارة عدد جد محدود من الفنانين والمثقفين، فإن محصلات هذا التطبيع، لم تتجاوز بعض التداعيات الإعلامية المحدودة التي زادت في تأجيج الوضع وتمنيع الصف العربي ضد التطبيع، وتوتير العلاقة بين نشطاء الحركة الأمازيغية المهرولين نحو إسرائيل وبين نشطاء من الحركة ذاتها يحتفظون بمواقف صلبة مقاومة للكيان الصهيوني.

التطبيع كثمن سياسي

لم تثمر جهود الصناعة البحثية في اختراق العالم العربي وتحقيق مستويات متقدمة في التطبيع إلى تحقيق نتائج مرضية، على الرغم من بعض المبادرات المحدودة هنا وهناك، ولم تفلح في تقسيم المجتمع المدني العربي إلى مدافع عن التطبيع في مقابل مقاوم له، فبقيت جبهة مناهضة التطبيع الأقوى مدنيا في ظل تنامي ظاهرة “الوصم الشعبي” للمبادرات المحدودة التي ساعدت في الاختراق الصهيوني للعالم العربي.

وأمام ضعف الرهان على معادلة “السلام مدخل للتطبيع”، ثم معادلة “التطبيع مع المجتمع المدني مدخل مؤسس للتطبيع السياسي” برزت في الآونة الأخيرة معادلة أخرى، هي “التطبيع كثمن سياسي”، ويقصد بها استثمار الأخطاء السياسية القاتلة التي ارتكبتها بعض الأنظمة العربية الحاكمة، ومحاولة التلويح بأن الخروج من الورطة التي أدلخت نفسها فيها لا ثمن له سوى التطبيع، وقد تم تجريب هذه المعادلة مؤخرا مع المملكة العربية السعودية بعد تورط قنصليتها في إسطنبول في جريمة  قتل خاشقجي، وما تلاها من ابتزاز أمريكي، أعقبته زيارة لكوشنر إلى المنطقة، وممارسته لقدر غير قليل من الابتزاز عليها من أجل القبول بصفقة القرن، وأن ذلك هو المخرج الوحيد من الورطة السياسية والدبلوماسية التي سقطت فيها، بل ودعوتها إلى ممارسة ضغوط قوية على مختلف الدول العربية من أجل الانضمام إلى لائحة مؤيدي صفقة القرن.

كما يتم تجريب هذه المعادلة أيضا مع الإمارات العربية المتحدة، التي فشلت في سياساتها التوسعية في المنطقة، وتكسرت رهاناتها في كل من ليبيا وتونس واليمن، وبادرت كثمن لإخفاقاتها وتخوفا من تداعيات ذلك على أمنها القومي، إلى الإعلان الرسمي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، غير مترددة في إعلان دعمها وتأييدها لترامب ونتنياهو في استحقاقاتهما الانتخابية.

Share
  • Link copied
المقال التالي