بعد ثلاثة أيام فقط من أوامر “محكمة العدل الدولية” لإسرائيل بتقييد حملتها في رفح تحاشياً للتورّط بجرائم حرب بحق المدنيين الغزيين، أقدمت إسرائيل على مذبحة جديدة بحق النازحين الغزيين في شمال القطاع.
تدلل استباحة دم المدنيين الفلسطينيين، في الساعات الأخيرة، على شهوة الانتقام المفتوحة، التي تفاقمت أكثر عقب إطلاق صواريخ على تل أبيب، وعلى الرغبة بالتعبير عن إحباط عميق في الشارع الإسرائيلي وفي الجيش لفشل الحرب المتوحشة بتحقيق أهدافها، رغم التدمير والتهجير. كما تعكس مذبحة رفح الجديدة عدم اكتراث إسرائيل بهذه الأوامر وبالرأي العام الدولي، ويبدو أنها تراهن وتعوّل على “فيتو” أمريكي يحول دون قيام مجلس الأمن بتطبيق أوامر لاهاي التي تظهر أنها محدودة ومتواضعة وغير فعّالة في ضوء هذه المذبحة.
تبييض صفحة
في محاولة لتبييض صفحته، والنأي بنفسه عن جرائم الحرب التي حذّرت منها “محكمة العدل الدولية” مرة تلو المرة، ادعى الناطق بلسان جيش الاحتلال أن الهجمة استهدفت قيادات هامة في “حماس”.
وأمام صمت إسرائيليّ رسمي على هذه المذبحة، التي تعتبر صفعةً لـ”محكمة العدل الدولية” أيضاً، تُواصل بعض الجهات غير الرسمية محاولات تبرير هذه الفظاعات التي ترتكبها إسرائيل داخل قطاع غزة بالإشارة إلى أن دولاً أخرى ارتكبت ما هو أبشع.
في حديث للإذاعة العبرية الرسمية، قال مستشار الأمن القومي السابق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند إنه يتوجّب على إسرائيل الدفاع عن صورتها، بالقول إن الولايات المتحدة تورّطت بما هو أشدّ في العراق وأفغانستان، من ناحية المساس بالمدنيين، وإن الجيش الإسرائيلي يتصرّف بمهنية وأخلاقية عالية.
آيلاند، الذي سبق ودعا، منذ اليوم الأول للحرب البربرية على غزة، لحسم غزة بتجويعها ومحاصرتها وعدم التمييز بين عسكريين ومدنيين، باعتبارها دولة معادية، كل سكانها أعداء ويؤيدون إبادة إسرائيل، يضيف: “يتوجّب علينا أيضاً نشر ما كتبه عشرات الجنرالات الأمريكيين حول أخلاقية الجيش الإسرائيلي”.
وكرر آيلاند ما يقوله مراقبون ومسؤولون إسرائيليون سياسيون وعسكريون بأن “حماس” هي المسؤولة عن مقتل المدنيين بأعداد كبيرة بسبب اندماج مسلحيها بين الأهالي وداخل المناطق السكنية.
صمّ بكم؟
بيد أن المشكلة في إسرائيل من هذه الناحية لا تقتصر على القيادات السياسية والعسكرية، فهذه المذابح تجري وتتم باسم ملايين الإسرائيليين الذين لا يخرجون للشوارع مطالبين بوقف حمّام الدم بحق المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وحتى في الضفة الغربية.
في تجارب سابقة، وعندما تفاقمت الجرائم، خرج عددٌ كبير من الإسرائيليين للاحتجاج عليها مطالبين بوقف الحرب، كما حصل عقب مذبحة صبرا وشاتيلا، عقب اجتياح لبنان عام 1982. بعض المراقبين الإسرائيليين يعتبر أن الصحافة الإسرائيلية عاملٌ هام في تأييد أغلبية الإسرائيليين لاستمرار الحرب وصمتهم على جرائم بحق الغزيين، بقولهم إن وسائل الإعلام العبرية تحجب حقيقة ما يجري داخل القطاع، وبالتالي هم يرون ما تعرضه القنوات العبرية فقط، فتصبح الحرب التي يرونها ليست الحرب التي تراها بقية العالم.
من هؤلاء الصحفي مقدم البرامج الإخبارية في قناة 13 العبرية أمنون ليفي، الذي يقول، في مقال تنشره “يديعوت أحرونوت” اليوم، تحت عنوان “ملطّف مخفّف عن تغطية الأحوال في غزة”، إن الصحافة العبرية أخفت الحقائق المروّعة من قتل الأطفال إلى الجوع والتجويع مثلما زوّدت الأرضية الأيديولوجية لتجاهلها هذا الواقع. ويضيف معاتباً: “كل العالم يرى الحرب في غزة، ونحن هنا نرى حرباً أخرى، وهذا مناف لأخلاقيات الصحافة التي عليها احترام حق الجمهور بما يدور حوله ويفعل باسمه، وذلك من أجل منحه فرصة لصياغة موقفه ورؤيته”.
“بعرف وبحرف”!
هل فعلاً يصمت الإسرائيليون لأنهم لا يعرفون، لا يرون ولا يسمعون، عن مذابح جيشهم في غزة؟
نظرة للخلف تظهر أن هذا ما حصل في الحروب السابقة على غزة، بعد حرب “الجرف الصامد”، عام 2014، التي امتدت 51 يوماً من القصف العشوائي. هذا حصل في الحرب المتوحشة التي سبقتها، حرب “الرصاص المصبوب”، في نهاية 2008، والتي “فوجئ” الإسرائيليون بعدها بتقرير أممي وضعه مقرّر دولي، ريتشارد غولدستون، الأمريكي من أصل يهودي جاء فيه أن إسرائيل قتلت 1500 امرأة وطفلاً خلال تلك الحرب التي امتدت شهراً ونيّف.
لاحقاً، ونتيجة ضغوط اللوبيات، تراجع غولدستون عن استنتاجاته، وقام بتخفيفها، بيد أن شهادات الجنود الإسرائيليين، المنشورة في ربيع 2009، عكست ما جاء من انتهاكات دموية في تقرير غولديستون.
وهكذا أيضاً في تقارير منظمات حقوقية إسرائيلية، مثل “بتسيلم”، و”يكسرون الصمت”، و”غيساه/مسلك”، وغيرها.
“يعرف ويحرف”، يقول المثل الشعبي، وهو يعبّر عن حال الإسرائيليين، ففي عصر الثورة المعلوماتية ومنتديات التواصل الاجتماعي التي تضخ معلومات غزيرة جداً لحظة بلحظة عن الحرب على غزة، بما في ذلك فيديوهات لا تكذب، لا يمكن، ولا يعقل، أن يدّعي إسرائيلي واحد أنه لم يسمع ولم ير.
أغلبية الإسرائيليين أيضاً يبحثون، كنتنياهو وحكومته، عن الانتقام، وعن انتصار، أو صورة انتصار، ولذا يمارسون نوعاً من “اللعب بالذات” بتجاهل المذابح السابقة والحالية داخل القطاع بعدة آليات سيكولوجية، كالقول إن هذه طبيعة الحروب، وإن كل غزة عساكر وإرهابيون، وهم من جلبوا على أنفسهم هذا بتأييدهم “طوفان الأقصى”، الذي شمل انتهاكات بحق مدنيين إسرائيليين أيضاً، أو التذكير بما فعلته فرنسا وأمريكا وروسيا وسوريا بحروب مشابهة.
مثل هذا السعي لتبرير مواقف غير أخلاقية، التعايش والتصالح معها، جرى في موضوع التمييز العنصري الرسمي بحق المواطنين العرب في إسرائيل، الذين تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، دون مواطنة متساوية، وفي الماضي سعت جهات رسمية وغير رسمية لتبرير ذلك بالقول إنهم مسؤولون عن هذا الفشل فهم لا يعرفون كيف ينبغي تحصيل الحقوق، كالميزانيات لسلطاتهم المحلية، هم يستحقون بسبب كونهم “طابوراً خامساً”، أو الإنكار بالإشارة إلى أن بيوتهم فخمة، ولا ينقصهم شيء، وهم أفضل حالاً من كل العرب من حولنا في الدول العربية. هكذا كشفت باحثة محاضرة إسرائيلية في كلية الاتصالات والصحافة في الجامعة العبرية، بروفيسور يفعات ماعوز، في دراسة نشرت قبل أكثر من 15 عاماً.
تعطيل الصفقة
يبدو أن نتنياهو، المصاب بـ “الأنا المتضخمة”، الجريح في هيبته لحدّ الهستيريا، والذي لن ترتَكَب مثل هذه المذابح دون علمه وتوجيهه، له حسابات أخرى، منها الرغبة بتعطيل مساعي الصفقة المطروحة الآن، التي يفترض أن تنطلق في القاهرة غداً، وذلك من خلال تعقيد الموقف ودفع “حماس” للتراجع عن المفاوضات بسبب الدم المسفوح. يعزّز هذا الاحتمال ما قالته الإذاعة العبرية العامة، صباح اليوم الأحد، نقلاً عن مصادر عليا في إسرائيل، قولها إن نتنياهو يسعى لتعطيل مداولات الصفقة قبل أن تنضج. وهذا يتقاطع مع ما بثته القناة 12 العبرية، أمس، عن مصادر مطلعة قالت إن مسؤول المفقودين والأسرى في الجيش الإسرائيلي الجنرال نيتسان ألون قد أكد، على مسامع ضباط الارتباط مع عائلات المخطوفين: “نحن يائسون. مع حكومة كهذه لن تكون صفقة”.
وسارع نتنياهو للرد على ذلك بمهاجمة طاقم المفاوضات والقول إن هذه التسريبات تمسّ بالمفاوضات وتخدم حماس”. وهذا ما قالته مصادر إسرائيلية كثيرة في الماضي حول محاولات إتمام صفقة، ومن أبرز هذه التصريحات ما قاله مصدران عضوان في طاقم المفاوضات لبرنامج “الحقيقة” للقناة 12 العبرية، قبل شهرين، بأن نتنياهو يضع العصي في دواليب المفاوضات بشكل منهجي. نتنياهو يثابر بهذا الموقف، منذ شهور، طمعاً بالبقاء في التاريخ والحكم، وخارج السجن.
(القدس العربي)
تعليقات الزوار ( 0 )