إن عملية تدبير الشأن الديني بالخارج، والمقصود بذلك تحديدا الإسلام بأوروبا، ليس بالشيء الهين، بل هو مساحة معقدة لصراع وتقاطع مصالح العديد من الأنظمة والتيارات الإسلامية، فبعد حرب البترول سنة 1973 حضرت بقوة السعودية بكل ما تملك من قوة المال والبترول من أجل السيطرة على المساجد والمراكز الإسلامية بأوروبا لترسيخ الفكر الوهابي داخل أوساط الجاليات المسلمة في أوروبا.
وبعد سنوات طويلة ستدخل أنظمة أخرى لرُقْعة الصراع ومنها تركيا (السنة) وإيران (الشيعة) وأيضا قطر، عبر الإخوان المسلمين، وقد سخرت كل هذه الدول أموالا ضخمة بالمليارات واستثمارات مهمة كمساعدات أو بناء مساجد أو شراء عقارات او تحويل كنائس الى مساجد و غيرها.
المغرب لديه جاليات قوية في البلدان الأوروبية، وبالتالي فجالياته معنية بكل تلك التجاذبات والتيارات الإسلامية، وهو ما يعني ضرورة تدخل الدولة المغربية للحفاظ على الهوية والنموذج المغربي في التدين المبني على الوسطية والاعتدال والمذهب المالكي لفائدة أجياله المتعاقبة بالمهجر.
في إيطاليا كان الأمر صعبا شيئا ما لتواجد الفاتيكان. ولعدم وجود مخاطب وحيد أمام السلطات الإيطالية. فالكونفدرالية الإسلامية ليست هي المحاولة الأولى، بل سَبقتْها محاولة “اتحاد المسلمين بإيطاليا”. لكن عدم نضج القائمين عليها أجهض المشروع وليس الفكرة والمبدأ وحسب. وهو ما حاولت الكونفدرالية الإسلامية تداركه.
وبالرغم من عدم الرضا على نتائج الكونفدرالية ولا على أداء بعض مكوناتها من لدن المتابعين والمواكبين للشأن الديني بإيطاليا، وهو ما يعني ضرورة القيام بتغييرات جذرية تجعل من فكرة الكونفدرالية محل إجماع لكل مغاربة إيطاليا.
ففي ماي 2019 صدر كتاب “أوراق قطر” للصحافيين الفرنسيين “كريستيان شيسنوت” و”جورج مالبرونو”، يتضمن تدفق أموال قطرية سنة 2014 من أجل تمويل أنشطة المساجد والمراكز الثقافية باوروبا حيث وصلت الفاتورة 72 مليون أورو. كانت 22 مليون أورو من نصيب إيطاليا.
بطبيعة الحال كان هذا التدفق في اتجاه المراكز الإسلامية والمساجد التابعة لتيار الإخوان المسلمين وبالضبط “لوكويْ” و بتوصية من الشيخ يوسف القرضاوي نفسه.
الكتاب/التحقيق “أوراق قطر” تضمن أرقاما وأسماء مساجد وشخصيات. لم يكن فيها مسجد “المدينة” بطورينو و لا حتى السيد بحر الدين، لأنه ليس من أتباع الحسن البنا ولا حفيده طارق رمضان.
كما أن خروجه من الكونفدرالية الإسلامية المغربية يعني أنه لا يتبنى المشروع المغربي الوسطي المعتدل. بل خلق لنفسه هيئة جديدة على مقاسه ُرضي غرور فضيلة الشيخ بحر الدين، ونعني بذلك “الفدرالية العامة للمسلمين بايطاليا “.
فهل كان هذا الموقف اختيارا بريئا؟ وكيف يُعْقل أن يقفز “حر الدين من مركب الكونفدرالية المغربية ليحاربها بعد ذلك؟.
لنترك بعيدا الكلام الكبير، مثل محاربة الفساد والمال العام وغيره. فالمنطق يقول إنه اذا لم يكن بحر الدين “مول الطربوش” إخوانيا (قطر) أو معتدلا (المغرب) فهو بالتأكيد وهابي الهوى، أي محسوب على تيار السعودية. لكن كيف السبيل للوصول الى هذه النتيجة الخطيرة؟
فإذا علمنا أن السيد بحر الدين لا يشتغل بشكل نظامي بإيطاليا ولا يؤدي الضرائب. لكن لديه سكن وسيارة محترمة وعائلة وأبناء، وهو ما يعني متطلبات الحياة من تكاليف ومصاريف، فهل يحصل عليها من إكراميات الناس وإحسان رواد المسجد؟ هذا بالإضافة إلى السفريات والتنقل في الدرجة الأولى بالطائرات إلى ألمانيا وفرنسا وبرشلونة. كما أن السكن بمنطقة “بلفدير” بمنطقة محطة المسافرين بالدار البيضاء غير متأتى للجميع!
كل هذه التساؤلات تبقى مشروعة و قائمة إذا علمنا ان السيد “بحر الدين” كان مكلفا بجمع و توزيع “الهبات”. فهل كان يُطبق مثلا ” اللهم ارحمني أولًا وارحم عبادي ثانيا”؟
لكن القيام بجولة خفيفة داخل ألبوم صوره تسلط الضوء على بكل المنطقة الرمادية في مسار “فضيلـة الشيخ” بحر الدين. فكل صوره هي مع خليجيين ومغاربة وسوريين وتونسيين من تيار الفكر الوهابي، من قبيل السعودي محمد العريفي الذي لبس الزي العسكري لمناصرة “جماعة النصرة” وسعيد بن مسفر القحطاني والشيخ المنجد وسعد البريك والتونسي البشير بن الحسين والمغربي نور الدين قراط وأبو النعيم، وغيرهم.
فهل كل هذه الأسماء ذات الفكر الوهابي صدفة؟ فهل المشاركة وإشراكهم في ندوات ولقاءاتهم صدفة أيضا؟ بكل صدق؟؟!
أعلن “بحر الدين” في الأسبوع الأخير من شهر دجنبر 2017، أن “فيدراليته العامة” ستفتتح مسجد محمد السادس ببوركينافاسو في الأسبوع الأول من يناير 2019. مع العلم أن عاصمة بوركينافاسو تتضمن فقط فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. وليس بها مسجد محمد السادس. فلماذا أقحم الملك باعتباره أمير المؤمنين والمغرب في نشاطه الإفريقي؟
الجواب نجده في فيديو نشره على صفحته. حيث خُصٍص له استقبال رسمي وكأنه مسؤول حكومي كبير، حيث اصطف عَلِية القوم للسلام عليه. ثم الحضور لخطبة الجمعة باللغة العربية. ولم يجد ما يستشهد به غير مؤذن الرسول (ص) بلال رضي الله عنه!.
الزيارة ستمتد لبضعة أيام ببوركينافاسو. وستتميز بحفل استقبال بادخ بمقر سفارة السعودية ببوركينا فاسو وتبادل شواهد الاعتراف والشكر مع سعادة السفير السعودي.
بوركينافاسو التي عرفت أحداثا إرهابيا داخل مسجد العاصمة ولها جوار مع دول تحتضن “بوكو حرام”. تعرف تنافسا كبيرا بين السعودية وقطر وتركيا وإيران في مجال بناء المساجد التي تحتضن تيارات من بناها.
وهنا نقترب من الاستنتاج الخطير. وهو ان امير المؤمنين والمغرب لهم سمعة قوية في بوركينافاسو سواء لدى الدولة أو الشعب البوركينابي، و خاصة في المجال الديني بوجود الزاوية التيجانية وكذا انضمام علماءها إلى مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. كما أن المغرب له وضع خاص على مستوى اقتصاد بوركينافاسو.
وهي عوامل تجعل السعودية في حاجة إلى خدمات مغربي بطربوشه الأحمر وجلاليبه لتسهيل ترسيخ التيار والفكر الوهابي بين مسلمي بوركينافاسو، وهي عناصر متوفرة في بحر الدين الكثير التردد على السعودية إما مُعْتمرا، كعمرة أعضاء الفيدرالية العامة سنة 2010. أو مرافقا للحجاج و المُعتمرين، أو مُشاركا في ندوات الشيوخ أو في دورات لتقديم بعض الشروح و الدروس.
وهو لهذا اعلن في تدوينته أنه سيفتتح مسجد محمد السادس ببوركينافاسو، وذلك من أجل استغلال الرأسمال الكبير من الثقة التي بناه المغرب في العمق الإفريقي وأيضا استغلال تراكمات الديبلوماسية الدينية المغربية في العمق الافريقي. لأنه لو لم يكن مغربيا وبطربوش مغربي، لما أعاره الحاضرون ذلك اليوم أي اهتمام، لكنه مغربي و يتمتع بنفوذ وهابي.
التساؤل حول حقيقة بحر الدين هل هو وهابي الفكر والهوى. يقترب من اليقين، سواء بإيطاليا حيث يُحارب النموذج المغربي من خلال محاربة مؤسساته مثل الكونفدرالية، والتي لا تتمتع برضا تام من قبل المغاربة وهو ما يستدعي ضرورة إعادة النظر في طريقة أدائها، أو بإفريقيا حيث يخدم أجندة الفكر الوهابي بالعمق الإفريقي؟
طبعا، يبقى السيد بحر الدين حرا في اختياراته المذهبية وفي طريقة تفكيره، لكن القضية التي تستدعي النقاش وطرح السؤال، وهي كيف استطاع فضيلة الشيخ بحر الدين أن يحول مجرى مصب المال الخليجي الوهابي في اتجاه “بحر الدين” في ظل “إسلام السوق” الإيطالي الذي يتم عن طريقه تسويق “الوهابية” بطربوش مغربي في إيطاليا ناهيك عن العمق الإفريقي التاريخي والثقافي والروحي والاستراتيجي للمغرب؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي يتطلب جوابا من قبل المشرفين على الشأن الديني المغربي، داخل المغرب، وخارجه أيضا!… نعم هذا هو السؤال الحقيقي!
تعليقات الزوار ( 0 )