Share
  • Link copied

نقد الشيخ الألباني لصحيح الإمام البخاري

محدث العصر وإمام أهل الحديث في العصر الحديث بلا منازع محمد ناصر الدين الألباني صاحب التصانيف الحديثية المشهورة و التي لم يسبق لمثلها  في علم الحديث   وقد قاربت  مؤلفاته وتحقيقاته المئة مؤلف ، وترجم كثير منها إلى لغات مختلفة، وطبع أكثرها طبعات متعددة ومن أبرزها، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وسلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، وصفة صلاة النبي من التكبير إلى التسليم كأنك تراها، وكتاب أحكام الجنائز،  وكتاب آداب الزفاف، وكتاب صحيح وضعيف الترغيب والترهيب، وصحيح وضعيف الجامع الصغير وزياده والتعليقات الحسان على صحيح ابن حبان وصحيح وضعيف الأدب المفرد.

 ولد  الشيخ الألباني بأشقودرة العاصمة القديمة لألبانيا سنة 1914م هاجر  رفقة والده و أسرته إلى سوريا بمدينة دمشق . وهناك أتم   دراسته الابتدائية في مدرسة الإسعاف الخيري  ، وبعد بلوغه سن الرشد ترك تقليد والده للمذهب الحنفي، وبدأ  بالاشتغال  بعلم الحديث، فتعلم الحديث النبوي في نحو العشرين من عمره متأثرًا بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها محمد رشيد رضا، ثلميذ الشيخ محمد عبده وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار للحافظ العراقي مع التعليق عليه.، فأصبح معروفًا بذلك في الأوساط العلمية بدمشق، وصار  الأبرع والأجدر  في علم التخريج، حتى إن إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق خصصت غرفة خاصة له ليقوم فيها بأبحاثه، بالإضافة إلى منحه نسخة من مفتاح المكتبة حيث يدخلها وقت ما شاء، أما عن التأليف والتصنيف، فقد ابتدأهما في العقد الثاني من عمره، وكان ، ومن أوائل تخاريجه الحديثية المنهجية أيضًا كتاب الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير .، وقد حصل على إجازه من محمد راغب الطباخ لتدريس أحد كتب علم الحديث، كما اختارته الجامعة الإسلامية في المدينة لتدريس علوم الحديث لثلاث سنوات – من 1381 حتى 1383 هـ – وبعدها عاد إلى دمشق لاستكمال دراسته للحديث وعمله في المكتبة الظاهرية،  وانتقل للعيش في الأردن إلى أن وافته المنية خلال شهر أكتوبر من سنة  1999 ميلادية.

 يعتبر من أوائل علماء الحديث الذين كانت لهم الجرأة الأدبية والفكريه والكفاءة العلمية  والجدارة المعنوية، على انتقاد وتضعيف أحاديث وردت في الصحيحين وفق الضوابط المنهجية لأهل الصنعة من رجال الجرح والتعديل وقواعد العلل  على غرار من تقدم من القدماء كالدارقطني في كتابه الإلزامات والتتبع وغيره.

وقد بنى نقده  على منهجية علمية منضبطة ، و سلك مسالك النقد العلمية المقبولة لدى المحدثين ، و تخلص من المهابة و القداسة التي تمتع بها  البخارى لعدة قرون ، واعتبر أنه لا  عصمةً  لأحد ولو كان  البخاري ومسلم ، فأهل السنة لا يعتقدون العصمة لغير الأنبياء ، لكنه  سار على طريقة المحدثين في النقد دون أن يرافق نقده  الحط من قدر الصحيحين ، والتشنيع عليهما ، ومحاولة إسقاطهما من تراث الأمة المقبول ، على خلاف ما ذهب إليه أبو رية  في كتابه  أضواء على السنة المحمدية ”   ، و اسماعيل الكردي  في كتابه ” نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث ”  ، وكذلك ما جاء  في كتاب ” الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها ” لصاحبه صالح أبو بكر ، ورسالة ” جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين ” لزكريا أوزون ، ودراسة بعنوان ” أضواء على الصحيحين ” لمحمد صادق النجمي وغيرها كثير.

ولهذا  فإن النقد المنهجي الذي انتهجه الشيخ الألباني  كان مؤسسا  على أدلة وبراهين معتبرة لدى علماء الإسلام ،تمتحي قواعدها من علم العلل والجرح والتعديل والعلم بالرجال،  لدراسة السنة النبوية كأحد فروع علم التاريخ ، التي تجمع بين النقد الإسنادي والمتني ، ولا تصادر قواعد المحدثين لحساب تخبطات الأهواء ، كما لا تستعمل لغة التشكيك والتهويل في منزلة الصحيحين دون إفراط أو تفريط.

وهذا المسلك سلكه كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين ، كأبي زرعة (ت264هـ)، وأبي داود (275هـ)، وأبي حاتم (ت277هـ)، والترمذي (279هـ)، والنسائي (303هـ)، والدارقطني (385هـ)، والبيهقي (458هـ)، وابن تيمية (ت728هـ)، وابن حجر (ت852هـ)، كلهم تجد في نقدهم  ما ينال نزرا من أحاديث الصحيحين  ، في مباحثات  علمية منصفة ومنهجية ، بل إن بعض أحاديث ” صحيح مسلم ” لا يقبلها البخاري نفسه ، وبعض أحاديث ” صحيح البخاري ” لا يسلم بها الإمام مسلم نفسه . ، وصنفت في مثل هذا النقد  المؤلفات  الكثيرة  ، من أوسعها ” هدي الساري ” للحافظ ابن حجر  العسقلاني.

من تأمل  بإنصاف مباحث الشيخ الألباني في انتقاده لبعض أحاديث الصحيحين أدرك أن الشيخ رحمه الله سار وفق المنهجية المنضبطة لعلم الحديث ، متابعا مَن سبقه مِن المحدثين في نقد بعض روايات الصحيحين ، وأن ذلك النوع من النقد ليس طعنا في السنة ، وليس مخالفا لإجماع العلماء ، بل هو امتداد لجهود سابقة معروفة في مناقشة الصحيحين ، ولكن ضمن أصول الحوار والنقد المتبعة ، وملتزما ، باتباع القواعد الحديثية  ،  .

وننقل هنا من كلامه الذي  يدل على التزامه بالمنهجية المنضبطة ،  وعلى بعض أمثله النقد الذي وجهه للصحيحين حيث يقول:

” لا بد لي من كلمة حق أبديها أداء للأمانة العلمية ، وتبرئة للذمة ، وهي أن الباحث الفقيه لا يسعه إلا أن يعترف بحقيقة علمية ، عبر عنها الإمام الشافعي رحمه الله فيما روي عنه من قوله : أبى الله أن يتم إلا كتابه ، لذلك أنكر العلماء بعض الكلمات وقعت خطأ من أحد الرواة في بعض الأحاديث الصحيحة ، فلا بأس من التذكير ببعضها على سبيل المثال:

قوله في حديث الأبرص والأقرع والأعمى الآتي برقم (1471): (بدا لله) مكان الرواية الصحيحة (أراد الله)، فإن نسبة البداء لله تعالى لا يجوز، كيف لا وهي من عقائد اليهود

قوله : ( المدهن )، مكان ( القائم ) في قوله صلى الله عليه وسلم : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ) الحديث (1143)، كما سيأتي بيانه هناك.

قوله في حديث الطاعون (1475) : ( فلا تخرجوا إلا فرارا منه ) فقول الراوي ( إلا ) خطأ واضح .

زيادة أحدهم في الحديث (984) : ( البيعان بالخيار …. يختار ثلاث مرار ) فقد نفى الحافظ (4/327، 334) ثبوتها.

قوله (ص176) في حديث (1160) للعبد المملوك الصالح : ( والذي نفسي بيده ، لولا الجهاد… الخ ) فإنه مدرج في الحديث ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من كلام أبي هريرة ، فهو كحديثه المتقدم في المجلد الأول برقم (90) ، حيث زاد الراوي في آخره: ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) ، فإنه مدرج أيضا.

ونحو ذلك ما تقدم في المجلد الأول (28-جزاء الصيد/21- باب) : ( أن رجلا قال : إن أختي نذرت أن تحج ) ، وأنها رواية شاذة عند الحافظ ابن حجر ، والمحفوظ : ( أن امرأة قالت : إن أمي نذرت…الحديث) فراجعه هناك.

ونحو ذلك الحديث الآتي برقم (1209) ، فقد أعله الإسماعيلي بالانقطاع ، وأقره الحافظ مع بعض الإشكالات على المتن ذكرها في ” فتحه “، فليراجعه من شاء.

ومثله الحديث المتقدم (28- جزاء الصيد/11-باب) عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) ، فإن الأصح أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال .

ومن هذا القبيل الحديث الآتي برقم (1050) ( قال الله : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة )، فإن في سنده راويا مختلفا فيها ، والمتقرر أنه سيء الحفظ ، والبخاري نفسه أشار إلى أن رواية من روى عنه هذا الحديث لا تصح ، فراجع كلامه هناك فيما يأتي ، لتكون على بصيرة من دينك وحديث نبيك.

ويستمر قائلا :

(ذكرت هذه النماذج من الأمثلة ، ليكون القراء على بصيرة من دينهم ، وبينة من أحاديث نبيهم ، متأكدين من صحة الأثر السابق ” أبى الله أن يتم إلا كتابه “، ولكي لا يغتروا أيضا بما يكتبه بعض المشاغبين علينا من جهلة المقلدين والمذهبيين ، الذين يهرفون بما لا يعرفون ، ويقولون ما لا يعلمون ، ويتجاهلون ما يعرفون …  ، لا اعتمادا منهم على أصول هذا العلم الشريف ، وقواعده المعروفة عند المحدثين ، أو لشبهة عرضت لهم في بعض رواتها ، فإنهم لا علم لهم بذلك ، ولا يقيمون لأهل المعرفة به والاختصاص وزنا ،  .”  من “مقدمة مختصر صحيح البخاري ” (2/5-9).

وقال  أيضا رحمه الله:

” جهل بعض الناشئين الذي يتعصبون لـ ” صحيح البخاري “، وكذا لـ ” صحيح مسلم ” تعصبا أعمى ، ويقطعون بأن كل ما فيهما صحيح ! ويقابل هؤلاء بعض الكتاب الذين لا يقيمون لـ ” الصحيحين ” وزنا ، فيردون من أحاديثهما ما لا يوافق عقولهم وأهواءهم ،….. . وقد رددت على هؤلاء وهؤلاء في غير ما موضع ” انتهى من ” سلسلة الأحاديث الصحيحة ” (رقم/2540) .

ويقول أيضا رحمه الله:

” الإمام البخاري والإمام مسلم قد قاما بواجب تنقية هذه الأحاديث التي أودعوها في الصحيحين من مئات الألوف من الأحاديث ، هذا جهد عظيم جداً جداً . . ولذلك فليس من العلم ، وليس من الحكمة في شيء أن أتوجه أنا إلى نقد الصحيحين وأدع الأحاديث الموجودة في السنن الأربعة وغيرها ، غير معروف صحيحها من ضعيفها . لكن في أثناء البحث العلمي تمر معي بعض الأحاديث في الصحيحين أو في أحدهما ، فينكشف لي أن هناك بعض الأحاديث الضعيفة! لكن من كان في ريب مما أحكم أنا على بعض الأحاديث فليعد إلى ” فتح الباري” فسيجد هناك أشياء كثيرة وكثيرة جداً ينتقدها الحافظ أحمد ابن حجر العسقلاني ” من  فتاوى الشيخ الألباني ” (ص/526) .

وبشكل أكثر وضوحا قال الشيخ الألباني  في مقدمة  كتابه مختصر صحيح الإمام البخاري طبعة المعارف للنشر الصفحة 12 ما يلي :(ثم إن أحاديث الصحيح من حيث أسانيدها قسملن معروفان عند العلماء : الأول، الأحاديث الموصولة، وهي التي يسوقها  المؤلف بأسانيدها المتصلة منه إلى رواتها من الصحابة… والآخر : الآحاديث المعلقة وهي التي لا يسوق المؤلف أسانيدها  أصلا….. فهذا القسم نوعان، مرفوع، وموقوف، وكلاهما ليس صحيحا كله عند المؤلف ومن بعده من العلماء، بل فيه الصحيح والحسن والضعيف، كما بينه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري) انتهى كلامه.

والحاصل أن الشيخ الألباني رحمه الله قد ضعف بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين ،  ، بناءا  على مناهج المحدثين السابقين الذين سجلوا بعض الملاحظات على أحاديث الصحيحين ، دون أن يكون  راغبا  في كسر هيبة الصحيحين من قلوب الناس ، ولا مبالغا في دعاوى الرد والتضعيف وإنما الأمانة العلمية هي ما دعته إلى هذا النقد والتتبع  لأنه وكما قال رحمه الله:(  أبى الله أن يتم إلى كتابه).

مصداقا لقوله تعالى :(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) صدق الله العظيم .

وأنه رغم كل الجهود التي قام بها المحدثون من الضبط والدقة وتتبع الرجال، إلا أنه تسرب لاعمالهم وجهودهم أخطاء هي أخطاء البشر التي لا يسلم منها عمل إنساني ولأن عصر التدوين  وكتابة الحديث لم يبدأ الا بعد قرنين من الزمان تحكمت فيه أهواء السياسة والسلطان.

Share
  • Link copied
المقال التالي