لقد شكلت الجهوية تاريخا مفصليا في بناء الدولة المغربية الحديثة، دولة المؤسسات دولة الحق والقانون،. حيث كانت أول شرارات هذا النموذج التنموي والاداري إبان دستور 2011 التاريخي،هذا الأخير الذي أعطى للجهات وللجماعات الترابية مكانة اقتصادية وإدارية وتنموية جد مهمة،وأناط مهام تسييرها للساكنة المحلية بالطرق الديمقراطية المتعارف عليها” الانتخابات”.
لقد أولى المشرع المغربي أهمية كبرى للتقسيم الجهوي للمغرب، فبعدما كانت المملكة تضم 16 جهة جاء المشرع المغربي و أعاد صياغتها قانونيا وتنظيميا لتصبح 12 جهة، متمتعة بكافة صلاحياتها القانونية والتنظيمية، وهو ما تعزز بإخراج القوانين التنظيمية التي تواكب وتساير عمل واختصاصات الجهات والجماعات الترابية.
كانت ولا زالت تشكل الجهوية المتقدمة أحد ركائز الدولة بمفهومها الحديث، وذلك بإعتبارها أحد ركائز و أوجه نظام اللامركزية،يتم من خلالها إشراك المواطنات والمواطنين في عملية تدبير الشأن العام وذلك بإحداث أجهزة ومؤسسات عمومية على الصعيد الجهوي تلبي إحتياجات المواطنات والمواطنين، وبذلك تعتبر الجهوية المتقدمة ركيزة مهمة وأساسية للديمقراطية المحلية ووسيلة ناجحة وناجعة لمواجهة كافة متطلبات التنمية وتخفيف العبئ عن الإدارة المركزية، باعتبارها نموذجا طبيعيا واجتماعي وكيان سوسيولوجي وثقافي متجدر من العادات والشعور بالانتماء بشكل يخلق هوية وشخصية متميزة وواضحة.
كما تبدو التجربة الدستورية المغربية منخرطة في إطار سياسي متميز، فبقدر تفاعلها مع الربيع العربي فإنها نهضت على مقاربة تنتصر لمبدأ الإصلاح في ظل الإستمرارية .
الجهوية المتقدمة ضمن دستور 2011.
كان ولا زال الدستور المغربي لسنة 2011 محطة مفصلية من تاريخ المغرب الحديث، حيث جاء بأسس دستورية للجهة جعلت منها جماعة ترابية والذي تطرق لها كوجهة ترابية لتحقيق التنمية المندمجة في إطار الجهوية المتقدمة .
لقد جاء هذا الدستور نتيجة مطالب شعبية طالبت برحيل الفساد والاستبداد وبناء أسس الدولة الديمقراطية الحديثة، حيث دشن جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ضمن خطاب التاسع من مارس الشهير من عامه 2011 مسلسلا إصلاحيا دستوريا مهما تمثل في إخراج دستور جديد جعل من أهم مرتكزاته الحكامة الجيدة والديمقراطية المحلية من خلال إقرار الجهوية المتقدمة.
أمام التطور الذي أصبح يعرفه النظام العالمي تجند المغرب وأقر بنظام الجهوية المتقدمة كخيار وورش إستراتيجي للارتقاء بتدبير الشأن المحلي بالبلاد خدمة للوطن والمواطن، فقد نص الفصل 136 من دستور المملكة الحالي على ما يلي “يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة”، كما نص الفصل 137 على مايلي”تساهم الجهات والجماعات الترابية الأخرى في تفعيل السياسة العامة للدولة، وفي إعداد السياسات الترابية، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين”.
يستفاد من خلال الفصول الواردة أعلاه أن المشرع الدستوري أعطى مكانة مهمة للجهات، وذلك بإعطائها صلاحيات واسعة تجعل منها رائدة في خدمة التنمية وأداة ناجحة وفعالة لتجسيد اللامركزية على الواقع العملي و ألية لتفعيل الخيار الديمقراطي على المستوى المحلي .
إن الناظر في الوثيقة الدستورية سيتبين له منذ الوهلة الأولى أن مقاربة الدستور للجهوية المتقدمة كانت مقاربة ناجعة وذلك من خلال الضمانات الدستورية التي خولها الدستور للجماعات الترابية، فالفصل الأول من الدستور نص على أن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لاكمركزي يقوم على الجهوية المتقدمة، وأهمية هذا التنصيص تتجلى في أن هذا الفصل أقر بجانب من جوانب مرجعيات الدولة والتي من بينها نظام الحكم وهاته المسألة لها من الأهمية القانونية والسياسية الشيء الكثير،على اعتبار أن المشرع الدستوري جعل من الجهوية المتقدمة ثابتا من ثوابت الدولة المغربية وخيار لا رجعة فيه يتعين على الجميع العمل عليه واحترامه اثناء تنزيل مختلف السياسات العمومية التنموية للبلد.
أما إذا إنتقلنا إلى الباب التاسع من دستور 2011 فقد تمت عنونته ب “الجهات والجماعات التراببة”، والمتمعن في هاته التسمية يجد أن المشرع الدستوري قد أفردها عن الجماعات الترابية .
إن الفصل 145 من دستور 2011 أقر بإسناد تنظيم الجهة والجماعات الترابية إلى قوانين تنظيمية صادرة عن البرلمان والتي ستكون موضوع مطلبنا الثاني، فالباحث النزيه والمتقصي لوضع الجهوية على المستوى الدستوري سيتبين له أن المشرع أثناء صياغته لجميع الفصول المتضمنة للجهوية المتقدمة قد اعتمد بالأساس على توصيات اللجنة الاستشارية للجهوية تجسيدا وتطبيقا للديمقراطية التشاركية.
إن موضوع تنزيل الجهوية المتقدمة على أرض الواقع سيترتب عنه إعطاء نوع من التوازن في العلاقة ما بين الدولة والجهة، وما جاءت به العديد من الخطب الملكية والتي أكدت على على ربط تحقيق التوازن بعملية التحديد الحصري للاختصاصات، وخير مثال على ذلك خطاب جلالة الملك لعيد المسيرة الخضراء عامه 2008 وغيره من الخطب الملكية والتي سنتطرق لها في باقي محطات بحثنا المتواضع.
ومن جديد دستور 2011 أنه أفرد تسمية جديدة للجهات والجماعات المحلية خلفا للدساتير السابقة، حيث أقر المشرع الدستوري تسمية جديدة أطلق عليها باسم *الجهات والجماعات الترابية”، كما عملت الوثيقة الدستورية على تكريس تعدد المستويات الترابية وذلك من خلال تنصيص الفصل 135 على أن الجماعات الترابية للمملكة المغربية تتمثل في الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات.
أما إذا انتقلنا إلى الفصل 63 من الدستور فقد جعل من الجهات والجماعات الترابية شريكا أساسيا في تفعيل السياسات العامة للدولة وعنصرا مهما في إعداد السياسات الترايية، بيد أن النص الدستوري كرس بشكل رسمي البعد الديمقراطي على مستوى الوحدات اللامركزية، باعتبار أن الجماعات الترابية أشخاص معنوية خاضعة القانون العام وتسير شؤونها بطريقة ديمقراطية ،كما أن الفصل 143 من دستورنا الحالي بوأ للجهة تحت إشراف رئيس مجلسها مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الاخرى من خلال عمليات إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية والتصاميم الجهوية لإعداد التراب في نطاق احترام الاختصاصات الذاتية لهاته الجماعات الترابية.
وفي هذا السياق أكد جلالة الملك على ضرورة التكريس الدستوري للجهوية المتقدمة في نطاق وحدة الدولة والوطن والتراب ،وهو مشروع بادر المغرب إلى التنبيه إليه في إطار الدفع بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للجهات إلى الأمام .
لقد ساهمت الجهوية المتقدمة في المغرب من بناء صرح ديمقراطي جديد، صرح أتاح للساكنة التعبير عن اختيار مجالسها الجهوية المنتخبة تساهم في النهوض بعملية التنمية وتحقيق متطلبات الحياة، كما شكل التقسيم الجهوي الجديد للمغرب من تحقيق إضافة نوعية على المستوى التنموي، وذلك من خلال رصد إمكانات بشرية ومالية مهمة للجماعات الترابية تمكنها من خدمة الساكنة وتحقيق التنمية المنشودة، وهو ما أشار إليه جلالة الملك حفظه الله في العديد من الخطب الملكية، كما أكدت عليه لجنة إعداد النموذج التنموي الجديد أثناء صياغتها للمقترح في أبريل 2021،حيث أشار التقرير إلى الدور الريادي للجهوية في تسريع عجلة التنمية وتحقيق حكم ذاتي يتيح للساكنة اختيار مجالسها بكل ديمقراطية وحرية.
- دور وتجربة المجالس الجهوية في خدمة التنمية والمعيقات المرتبطة بها.
لقد إعتبر النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية الحلقة الكبرى التي أدت إلى التفكير في إعداد نظام جهوي متقدم،لكن سيكون من الصعب أن تقتصر الجهوية فقط على أقاليمنا الجنوبية، بل سيكون مفصلا أن تشمل الجهوية مختلف مناطق البلاد مما سيعطي مصداقية أكثر للجهوية كاختيار ديمقراطي.
إن الأساس الذي بنيت عليه الجهوية المتقدمة منذ بروزها هو خدمة التنمية المستدامة، والتي تعتبر حسب اللجنة العالمية للتنمية والبيئة هي الأساس الذي يلبي حاجات الحاضر دون التفريط في تأمين حاجات أجيال المستقبل.
إن الجهوية هي أساس دعم التنمية المحلية من خلال المشروعات التنموية الاجتماعية والاقتصادية ،كما تمكن المواطنين من تنظيم وتدبير شؤونهم المحلية والجهوية في إطار استقلالي ذاتي وإداري ومالي، وهذا ما تم التنصيص عليه في القانون التنظيمي للجهات، هذا الاخير سطر أهداف الجهوية المتقدمة ورسم أهدافها ولنا على أرض الواقع من التجارب و المشاريع المهمة التي أعطت للجهوية مفهوما حديثا يكرس بالحرف ما جاء به الدستور والقوانين الموازية في هذا الإطار.
لقد تبنت الدولة سياسة لامركزية والتي عرفت مسارا إصلاحيا يتمثل في الجهوية المتقدمة بخصوصيات مغربية وأهداف متجددة تنسجم مع الواقع الداخلي والخارجي والذي أصبح في أمس الحاجة إلى وحدات ترابية لامركزية قادرة على تصريف مختلف المشاكل المتراكمة ومحاولة التغلب عليها ،وعلى الرغم ما حققته الجهوية من ايجابيات فلابد من تخبطها في سلبيات حيث مرت على تنزيل ورش الجهوية بالمغرب حوالي ثماني سنوات، وذلك بتحقيقه اهداف كبرى كما سلفنا سابقا، لكن هذا لن يغنينا عن وجود بعض المعيقات في التنزيل الواقعي للجهوية بالمغرب، حيث أن الحصيلة في مجملها تثير الكثير من التساؤلات سببها التأخر في تطبيق المخططات الجهوية للتنمية، الشيء الذي يعرقل عمل المجالس الجهوية في جلب الاستثمارات وخلق التنافسية.
إن ورش الجهوية بالمغرب تأثر بعدة سياقات منها ما هو تشريعي وما هو عملي، فالسياق التشريعي يتمثل في التأخر الكبير للإطار المعياري، على اعتبار أن الترسانة القانونية لم تستكمل إلا في أواخر سنة 2016 ،الأمر الذي حال دون تفعيل مجموعة من المقتضيات القانونية الواردة في القانون،والتي من بينها الاختصاص الذي منح للمجالس الجهوية في إعداد برامج التنمية الاقتصادية والإجتماعية بالجهات.
إن الحديث بشكل ممفصل عن معيقات التنزيل الأمثل للجهوية بالمغرب سيدفعنا إلى دراستها من عدة مستويات، أولها متعلق بالشق السياسي، والثاني متعلق بالشق الاقتصادي.
الشق السياسي
ويتمثل ذلك من خلال إنتشار الريع والمضاربة ولوبيات الفساد بشكل يحول دون خدمة الصالح العام، وذلك عن طريق الخلط والمزج بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية لخدمة أهداف وأجندات شخصية، حيث أصبح الوصول للمناصب السياسية نتاج لمعاملات مادية وانتهازية وهذا ما يؤثر بشكل كبير على البناء المؤسساتي وإضعاف بنياتها عن طريق نهب المال العام .
كما هناك معيقات أخرى مرتبطة بالمواطن والمتمثلة في غياب حس المراقبة الفعلية عن طريق المجتمع المدنية، وذلك بالاعتماد على الألية العقابية المتمثلة في عدم إعادة التصويت على نفس النخب في الانتخابات.
كما تتمثل العوائق من خلال هيمنة الدولة على نظام المركزية المفرطة وعدم التفريط في هيمنتها، والمتمثلة في رقابة الملائمة من خلال مواكبة ومطابقة السياسات الجهوية مجملها مع السياسة الوطنية، ومن جهة أخرى هناك الوصاية الممنوحة للسيد العامل كممثل للدولة وهيمنتها على باقي المؤسسات الجهوية والذي أبان عن عرقلة عمل بعض الجهات وعلى سبيل المثال جهة كلميم واد نون.، وعدم وجود إدارة مستقلة منتجة في ظل سيطرة منطق المركز على منطق الجهة.
كما أن الديمقراطية الجهوية من حيث النظام الانتخابي أنتجت للمغاربة مزيج وخليط من المدبرين للشأن العام الجهوي، نظام انتخابي أنتج تعدد الفاعلين على مستوى تركيبة المجلس حيث يصعب اتخاذ القرار الصائب والملائم في ظل الأجهزة المكونة للمجلس وتضارب المصالح الشخصية والحزبية والنقابية
على المستوى الإقتصادي
1.قلة المناطق الصناعية مع ضعف مساهمة الجهات في شركات الإقتصاد المختلط .
2.غياب التوزيع العادل للثروات وعدم خلق الجهة لمشاريع إستثمارية موازية .
3.تباين كبير بين الجهات على مستوى النمو الإقتصادي والإجتماعي.
4.تمركز الثروة الوطنية في الشريط الساحلي بين القنيطرة والدارالبيضاء.
على المستوى الإداري:
1.عدم تساوي التقطيع الجهوي وعدم التساوي بين المناطق الحضرية والقروية.
2.غياب السياسة الموازية للتركيز الإداري.
ومن موقعنا كباحثين في حقل القانون باث لزاما منا عرض بعض الإقتراحات التي من شأنها أن تضع نظام الجهوية بالمغرب يسير في أفق جيدة محققة الأهداف المرجوة منها ،ومن ببن تلكم الإقتراحات ما يلي:
• إعطاء المجالس الجهوية القوة لتنفيذ السياسات العمومية في إطار عدم التمركز .
• دعوة المجالس الجهوية المنتخبة إلى القيام بكافة إختصاصاتهم وصلاحياتهم المسطرة قانونا سواء في الدستور أو القوانين ذات الإطار.
• حث الإدارة المركزية على التنزيل السليم لعدم التمركز الإداري .
• الأخذ بعين الإعتبار النموذج التنموي بأقاليمنا الجنوبية كألية واقعية للنهوض بالتنمية.
• الإنزال الواقعي لميثاق اللاتمركز.
• ضرورة خلف فرص الإستثمار والإنفتاح على مغاربة العالم .
• العمل على تنزيل تصويات النموذج التنموي الجديد.
• بلورة مشاريع وبرامج ومخططات تتوخى الرفع من جاذبية الإستثمار .
• إشراك فعاليات المجتمع في التنمية الجهوية .
• إشراك حقيقي وواقعي للمجالس العمومية كالمجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي في عملية إعداد التقارير المتعلقة بتعتر مشروع الجهوية.
• إعتماد إطار من التعاون بين الدولة والجهة.
• تأهيل المنتخب الجهوي وذلك عن طريق تحسين النظام الأساسي الخاص بالمنتخب الجهوي.
لكن أبعاد التنمية لا تقتصر فقط على الجانب الإداري والسياسي فقط، بل يمكنها أن تصل إلى أبعد من هاته الحلول لتشمل حتى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية.
إن تحسين أداء نظام الجهوية المتقدمة بالمغرب يتطلب تنظيم الإدارة المحلية وتحديث أساليبها واعتماد نهج تدبيري عصري يعتمد على التخطيط الإستراتيجي والمقاربة التشاركية ،، وكذا توفير أجهزة إدارية ومالية مستقلة وذلك بغية تحسين جودة التدبير الجهوي والإدارة الجيدة وتحقيق مصالح المواطنين وتطلعاتهم.
*متصرف بوزارة الصحة والحماية الاجتماعية
تعليقات الزوار ( 0 )