Share
  • Link copied

ميشيل أونفري وتغييب الحكمة الفلسفية

ما يعرف عن الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفريMichel Onfray حضوره الواسع والمتوالي في وسائل ووسائط الإعلام، والنشر المتواصل للكتب والمقالات. فهو ظاهرة فكرية وإعلامية في حياتنا المعاصرة. لكن وجه الغرابة والمفارقة أنه دائما يكرر عن إصرار عنيد بأنه ضحية حصار ومنع ومصادرة من قبل أجهزة الإعلام الكبيرة ذات الوزن الثقيل والمؤثرة في الرأي العام إذا لم نقل تصنعه. فقد تكلم ميشال أونفري في كثير من القضايا والموضوعات على خلفية أن الفيلسوف في العصر الراهن هو من له القدرة على متابعة الحدث بعد أن تهدأ الأوضاع وتستتب الأمور وتتراخى الخواطر. وهذا ما فعله في العديد من تدخلاته ومتابعاته سببت له مآخذ لحد التجريح والطعن أوصلته إلى أن الخلف الذي يتواصل مع السلف النازي والنظام التعاوني الفرنسي زمن حكم فيشي وحكمه الاستسلامي. زمن الحرب العالمية الثانية وسياقاتها ومطباتها اللاحقة.

أونفري تَنكر لفكره الذي قاده إلى اكتشاف مجالات وشخصيات وأفكار ومفاهيم طَمَسَها الفكر السائد والسياسات الرسمية وصاغ منها تيارا معاكسا تماما لما هو قائم ومارس مبضع النقد في كل ما وصل إليه من قراءات ومطالعات وتأملات، ولعل شهرته كسبها من تأليفه لسلسلة من الكتب أطلق عليها التاريخ المضاد والفلسفة المضادة والفكر السياسي المضاد الذي لم يخلُ من تقريع للسلطة وتجريح للدولة ومؤسساتها التي لا تقف إطلاقا على الحقيقة. وهي المقاربة التي قربته أكثر إلى النزعة الفوضوية والإلحاد ونزعة الإباحية التي ابتعدت كثيرا عن اليسار الذي يدعيه. هذا ما يعرف عن المفكر والفيلسوف ميشال أونفري، لكن مروره الأخير، يوم 18 فبراير، في برنامج «الموعد الكبير» الذي تنشطه الإعلامية المعروفة صونيا مبروك في قناة (س- نيوز) أربك العديد من كان لهم موقفا ورأيا في الفيلسوف خاصة في تعليقه عما يجري في غزة.

في البداية، هو يؤيد ما يجري في إسرائيل وأن رد السلطة العِبرية على يوم 7 أكتوبر هو مشروع ليس بمعنى ما ولكن بكل معاني الكلمة ودلالات الفعل التي يجب أن تبحث عما هو أكثر وليس فقط الرد المناسب. عندما توجهت إليه الصحافية مستغربة: ألهذا الحد تؤيد الرد الإسرائيلي غير المناسب وغير المتوازي إطلاقا بين ما فعل تنظيم مناضل وبين ما قامت ولا تزال دولة رهيبة بقضها وقضيضها؟ كان رده: عندما تعلن الحرب على خصمك يجب ألا تبحث عن طريقة ومستوى الرد وتفقد الكيفية والطريقة التي يكون عليها الرد ودرجة الدمار الذي يمكن يحدث، كما يجب أن يلتفت إلى من يستنكر ذلك حتى ولو كانت الدنيا كلها على ما أبدته شعوب العالم تقريبا!

الوصول إلى هذا الحد من الرأي يقربه أكثر من فكر خصمه العنيد برنار هنري ليفي المحسوب دائما على النزعة الصهيونية المتوافقة دائما مع السياسة الإسرائيلية والثقافة اليمينية المتطرفة. وربما هذا ما يشفع له لأنه يهودي المنبت وصهيوني الفكر ومرابي الثقافة والمال. لكن ميشال أونفري حالة، كما يزعم، مناقضة تماما للبرجوازية الإعلامية والثقافة الرأسمالية الشائعة اليوم التي كشفها بشكل واضح إنزال المقاومة الفلسطينية ليوم 7 أكتوبر الأخير.

كان أونفري على موعد كبير لكي يفضح نفسه بقدر زائد عن الحد وعن قلة حياء فكري وغياب أخلاق الفلسفة التي تتسم بالرصانة والحكمة والتعقل. كيف يمكن تبرير عبث الوكيل الأمريكي في المنطقة وكيف لا يمكن أن نفهم بأن كل تقوم به المقاومة الفلسطينية وحتى الشعوب العربية ضد إسرائيل هو من صلب الرد الشرعي على المشروع الأمريكي – الصهيوني. إسرائيل في موضع الخطأ والمجرم الدائم، توحي دائما بالرد وشن الحرب عليها ما توفرت إمكانيات السلاح والقوة السياسية والدبلوماسية وهذا ما قدرته المقاومة الفلسطينية في جولتها الأخيرة. نعم جولتها الأخيرة لأن تاريخ إسرائيل كان ولا يزال تاريخ احتلال وسيطرة واستعمار كما أن تاريخ العرب والفلسطينيين هو تاريخ مقاومة ورد ومحاولة سعي إلى سلام ولو على حساب الأرض في بعض الأحيان.

في كلامه الزائد عن الحد، أوضح أونفري أنه ليس هناك وجه مقارنة بين نازية هتلر وبين ما يقوم به الجيش الإسرائيلي في غزة لأن الهولوكوست حالة فريدة من نوعها، وربما من العار أن ينسب إليها ما يجري اليوم في الأرض الفلسطينية. هذا الانسياق وراء تبرير الفعل الإسرائيلي هو الذي جعله يفقد الحكمة الفلسفية ولا يرى أن الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة فاقت المجزرة النازية في عهدها بما لا يمكن أن يتصوره العقل في القرن الواحد والعشرين، لأن الزمن المعاصر جدا من طبيعته أن يضاعف من كثافة المأساة ومن حدة الشعور بها وهذا ما يفعله الصهاينة اليوم في غزة من قبل نتنياهو فهو مجرم حقيقي وليس مجازا، لأن الحرب غير المتكافئة التي أعلنها على المقاومة الفلسطينية هي المخرج الأخير لعدم دخوله السجن، ليس بالقوانين الدولية فحسب ولكن بالقضاء الداخلي أيضا. وهذا ما لم يخطر على بال أونفري وفضّل أن يقدم دينا رمزيا ومعنويا وربما ماليا إلى السلطة العبرية عبر قنواتها الرسمية وعواصم العالم الكبرى على ما هي (س- نيوز) وأقرانها.

المشهد الأخير الذي حبس أنفاس العالم كله إلا الصهاينة من اليهود والمسيحيين وحتى الملحدين أن الكيان العِبري بما يحمل من مخزون الشر وإثم المعاملات وما يبيت دائما من عداء وظلم هو الذي يبدع اليوم في ارتكاب جريمة حرب إبادة ليس على البشر فحسب، كما فعل النازيون في اليهود، بل على الحجر أيضا بنية أن الباقي من الفارين من الجحيم لا يمكنه أن يعود إلى أرضه، فضلا عن أن القنابل التي رافقت السكان في سجنهم الكبير قطاع غزة قد عرضتهم لما يعادل الآن ثلاث قنابل نووية، أي ما يفوق ما ألقي على هيروشيما وناغازاكي صيف 1945.

وهكذا تتبين الصورة الأخيرة التي يشاهدها العالم كله ويستنكرها ويتألم لها بالفعل لأنه لا يكف عن المسيرات والاحتجاجات والتنديد بالمواقف المتخاذلة. لكن «الحكيم» ميشال أونفري لا يريد أن يرى الصورة كاملة بما تحمل من تاريخ بين مستعمِر ينعم بأرض غيره ومستعمَر يشقى في أرضه. سقوط الفيلسوف على هذا النحو، هل يعزى إلى قوة الاحتمال والصبر للشعب الفلسطيني أو يعزى بالأحرى إلى قوة الفلسفة الصهيونية في وصولها إلى زعزعة الحكمة والدين والفكر والأخلاق عند من كانوا يدعون أنهم يمتلكون ناصيتها وخلفياتها وحتى مآلاتها!؟

Share
  • Link copied
المقال التالي