مع بداية ظهور الطائرات تفرقنا في الجبل بين شعاب وكهوف و مغارات “سنين كمبة”. وهي منطقة صخرية مسننة في وسط طرف جبل “تكل” تشبه المتاهة.
كان القصف يزداد ضرارة وتتسع رقعته وبلا انقطاع كأنما الطائرات تتزود بالقنابل فوق رؤوسنا. ما إن يفرغ سرب حمولته من الحمم حتى يطلع علينا سرب جديد.
تحول الجبل من منتصف ذلك اليوم وحتى المساء إلى جحيم تصعب النجاة فيه، حتى الجبل أصبح عدوا لنا. فالقنابل تفجر الصخور و تختلط انشطاراتها المتطايرة مع شظايا القنابل المتفجرة.
كنت مع مجموعة فيها قائد فرقتي “علال بوكدو” لخميسي وبعض الصحراويين، التجأنا إلى ظل جرف حينما تعرضنا لقصف مباشر، استشهد على إثره ثلاثة من رفاقنا على الفور، وأصيب القائد إصابة بليغة، وأصبت أنا في ساقي، ووجدتني بعد فترة ممد بين الشهداء أسبح في بركة من الدماء، وفي طرف الجرف قائدي يئن من شدة الألم.
تم استهدافنا قبل منتصف النهار. و بقيت حي عاجز بين أموات، لا أسمع غير أصوات الانفجارات والحجارة تتساقط فوق رأسي ومن حولي، تتخللها لحظات صمت قصيرة تشبه صمت القبور.
وشيئا فشيئا بدات أصوات أحذية الرفاق تختفي من حولي في الجبل. فلم أعد أسمع أو أرى لهم حركة، ولا أدري هل أصابهم ما أصابني ورفاقي الجاثمين حولي، أم يكتمون أنفاسهم في الشعاب المجاورة لهول ما نتعرض له.
لما قرب الليل عدت أسمع أصوات حركة في الجبل، سأعرف فيما بعد أنها تعود للعساكر الفرنسيين ومن معهم من المجندين الموريتانيين الذين صعدوا الجبل لتمشيطه. و قد بت أسمع حركتهم من فوقي أعلى الجبل، و قنابلهم اليدوية الأخف إنفجارا باتت تسقط في الشعاب من حولي بدل قذائف الطائرات التي كانت تهز الجبل طوال اليوم.
في تلك الحركة استغل الناجون منا فرصة تخفيف قصف الطائرات وغطاء الظلام في الانسحاب ومغادرة الجبل. وبقيت جثامين الشهداء، و أجساد الجرحى ممدة على سطح الجبل وفي الكهوف والمغارات.
يصف السياسي ورجل الأعمال الموريتاني بمب ولد سيدي بادي في مذكراته ما حدث ذلك اليوم:
“لقد كانت خسائر جيش التحرير كبيرة وموجعة حيث لم يخرج من الجبل من تلك المائة مقاتل إلا ثلاثون وبطريقة احترافية. حيث خرج عناصر جيش التحرير من جبل تكل إلى منطقة “سنين كمب”، ودخلوا في الكهوف في سفح الجبل، فأعادت فرنسا قصفهم من جديد، فيما قام العناصر المدنيون بمحاصرة جيش التحرير، وتواصل القصف الجوي القوي على منطقة سنين كمب”.
يتحدث السياسي الموريتاني هنا عن الفرق التي كانت متمركزة فوق سطح الجبل، بينما إحدى فرق جيش التحرير كما أروي وأنا شاهد: كان تعدادها تقريبا من الـ(40) أو يزيدون، تقدمتنا الليلة الماضية، وتمركزت في واد قريب من المدينة. لم يطالهم القصف الذي تعرضنا له نحن من كنا فوق سطح الجبل، لكنهم لم ينجوا من الأسر فقد كشف موقع اختبائهم في الصباح وتم أسرهم جميعا.
تعليقات الزوار ( 0 )