Share
  • Link copied

مكانة الاجتهاد في الدرس العقدي عند الحافظ عبد الله بن الصديق

نورالدين لشهب

صدر قبل شهر تقريبا للباحث المغربي عبد الله الجباري كتاب بعنوان “الاجتهاد في الدرس العقدي عند الإمام الحافظ عبد الله ابن الصديق الغماري”، في التفاتة لطيفة منه إلى “النبوغ المغربي” – بعبارة عبد الله كنون- في الفقه وعلم الكلام والتصوف السني في طبعته المغربية.


وأوضح الباحث منذ البداية، أي في مقدمة الكتاب، صعوبة إنجاز الدراسة، لأن الإمام ابن الصديق لم يفرد المباحث العقدية في تآليف مستقلة، وذا ما يفرض على الباحثين تتبع جميع مؤلفاته وتحقيقاته ومقالاته لاستخلاص مواقفه وآرائه الكلامية.


وتضمن الفصل التمهيدي من كتاب “الاجتهاد في الدرس العقدي عند الإمام الحافظ عبد الله ابن الصديق الغماري” جوانب من سيرة الإمام ابن الصديق، وركزت بالخصوص على فترة إقامته بمصر، إذ أبرز الدكتور عبد الله الجباري اعتمادا على مراسلات الإمام مع أشقائه المحن والصعاب التي مر منها، والتي لم تحل دون نبوغه العلمي.


كما أورد الباحث معلومة دفينة لا يكاد يعرفها أحد من مؤرخي المرحلة الاستعمارية، وهي تأسيس جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية سنة 1944، برئاسة الشيخ محمد الخضر حسين، وعضوية علماء وصحافيين وتجار وغيرهم.


ولم يكن المغرب الأقصى ممثلا في جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية سوى بعضو وحيد، وهو الإمام عبد الله بن الصديق. وكان الهدف من هذه الجبهة هو “كشف جرائم فرنسا وخططها الدنيئة”.


وأورد الباحث شهادة قيمة ومطولة للصحافي خالد مشبال رحمه الله، يبين من خلالها براءة الإمام مما نسب إليه، وأن اعتقاله في السجون الناصرية كان ظلما ليس إلا.


وضمت الدراسة فصولا أربعة، خصص الباحث أولها لقضايا الإلهيات، وأفرد الفصل الثاني للنبويات، وجعل الثالث للسمعيات، وختم بفصل حول آراء الإمام في الصحابة، ومواقفه من الفرق والمذاهب العقدية.


ويبدو أن الباحث كان مقيدا بتيمة الاجتهاد الواردة في العنوان، إذ لم يذكر القضايا المتواترة والمحسومة في المنظومة السنية، كعذاب القبر والصراط والميزان وغيرها، لأن الإمام لم يتناولها على طريقة الاجتهاد.
أما القضايا الاجتهادية الواردة في الكتاب، فنوعان:


نوع قاربه الإمام وفق منطق الاجتهاد الترجيحي، إذ رجح رأيا من الآراء الواردة في التراث العقدي، بأدلة بعضها لم يسبق إليه، مثل رؤية النبي لربه ليلة المعراج.


والنوع الثاني أبدع فيه الإمام آراء تفرد بها ولم يسبق إليها، مثل نقده لتأويل الأشاعرة للاستواء، وإيراد تأويل جديد؛ وكذا قوله إن الملائكة كلهم رسل، وليس بعضهم فقط، وقد استند إلى أدلة المخالفين ذاتها، إضافة إلى غيرها، ومن ذلك قول الله تعالى: “الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس”، إذ اعتبر الجمهور “من” في قوله تعالى: “من الملائكة” للتبعيض، ورجح الإمام كونها لبيان الجنس.


ومن نبوغ الإمام أنه انتقد آراء تبناها أئمة كبار، مثل الرازي والزمخشري وابن حزم والعز بن عبد السلام وغيرهم، ممن قالوا بأفضلية جبريل أو الملائكة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعدم رؤية الملائكة لله في الجنة، وكذا إطلاقهم لفظ “الخدم” على الملائكة، سواء جبريل عليه السلام الذي وُصف بأنه خادم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو عموم الملائكة الذين وصفوا في التراث العقدي بأنهم خدم أهل الجنة، إذ ردّ على هذه الآراء وغيرها بنفَس المجتهدين الكبار، ولا يتبنى رأيا إلا بالدليل، ولا ينتقد قولا إلا بالبرهان.
كما يظهر من خلال الدراسة أن الباحث عقد دراسات مقارنة بين آراء الإمام ابن الصديق وغيره، وكشف من خلالها أن الإمام ينتمي إلى أسرة علمية طنجية مغربية، ترفض التقليد وتنبذه، وتتبنى الاجتهاد ولو أدى إلى اختلاف أفراد الأسرة مع بعضهم البعض.


وتبين من خلال الدراسة أن الإمام عبد الله ابن الصديق كان يتبنى آراء مخالفة لشقيقه وشيخه الإمام أحمد ابن الصديق في قضايا مهمة، منها الموقف العام من الأشاعرة، وعصمة الملائكة، و”معصية” آدم، ونبوة النساء، وهذا أمر محمود، يدل على انتصار أفراد الأسرة الصديقية للدليل، دون محاباة بسبب القرابة والأخوة، وهي ميزة لهذه الأسرة العالمة.

وبين الدكتور عبد الله الجباري في بحثه مزايا متعددة، أهمها إبرازه لخصيصة الاجتهاد، وأنه مستمر لم ينقطع، وليس مقصورا على القضايا الفقهية فحسب، بل يطال المباحث العقدية أيضا.


كما كشف الباحث أن الإمام ابن الصديق كان أيقونة هذا المجال، إذ لم يكتف بترديد ما قاله السابقون كما هي عادة أغلب خريجي القرويين والأزهر في عصره، بل خرق حجب التقليد، وانتقد المقولات المتوارثة والتي يحفظها العلماء في المتون والشروح والحواشي. وهذه لوحدها منقبة لعلماء المغرب المعاصرين.


ومن مزايا هذه الدراسة أيضا بيان الفكر الوسطي في الموقف من الصحابة؛ فالإمام ابن الصديق أدى به اجتهاده إلى أفضلية علي بن أبي طالب، وأعلميته، وعدم الترضي على معاوية وأنصاره، خلافا للبارديغمات المتوارثة في المنظومة السنية.


وهذه المواقف الفقهية التي اشتهر بها الإمام جعلت البعض يتهمه بالتشيع، كما فعل الكثير من المتسرعين في أحكامهم، لكنهم سرعان ما يصطدمون بمواقف أخرى تبين عدم تشيعه، وهو ما كشفته الدراسة، مثل قوله بكفر وعدم إيمان أبي طالب، وكذا ذبه وثنائه على أبي بكر وعمر وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم، إضافة إلى تبنيه لرأي أبي بكر الذي امتنع عن توريث السيدة فاطمة عليها السلام، وكل هذا خلافا للبارديغم الشيعي؛ دون أن ننسى انتقاداته لعلماء الشيعة، ولعموم مذهبهم، وهو ما يبين عدم خضوعه للأقوال المتوارثة والمحنطة، بقدر ما يخضع للدليل.


والوسطية ذاتها نجدها في علاقة الإمام بالأشاعرة، فهو مدافع عنهم، معتبرا إياهم على الحق، وفي الوقت نفسه ينتقد بعض مقولاتهم وأعلامهم، مما اعتبره عاريا عن الدليل أو مخالفا له.


أما بالنسبة للباحث الدكتور عبد الله الجباري فقد أكد، في تصريح خاص بجريدة هسبريس، عن سعادته بإصدار هذه الدراسة، وأنها الحلقة الثانية في معالجته لموضوعة الاجتهاد عند الإمام، بعد الأطروحة التي قدمها لنيل الدكتوراه، والتي قارب من خلالها الاجتهاد الفقهي عند الإمام ابن الصديق؛ أما هذه الدراسة فتناول من خلالها موضوعة الاجتهاد العقدي.


ومما يلاحظ في شخصية الباحث أنه لم يكتف بجرد أقوال الإمام وسردها، بل عمل على تحقيق النقول والآراء، ودراستها دراسة مقارنة، مع ما يزخر به التراث العقدي من أقوال واستدلالات. ومن أهم مميزات هذه الدراسة ما قام به الباحث من تحقيق أقوال منسوبة إلى علماء، وهم منها براء، أو مناقشة علماء آخرين في آراء تبنوها.
فبالنسبة إلى المسألة الأولى، نسب الحافظ السيوطي القول بنجاة أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابن العربي المعافري، ونقلت هذه النسبة من بعده، ثقة فيه؛ أما الباحث فلم يعز القول إلى المعافري اعتمادا على السيوطي، بل رجع إلى المصادر الأصيلة، وتبين له أن ابن العربي قائل بخلاف ما نسبه إليه السيوطي. والأمر ذاته في دعوى تراجع العلامة القاري عن قوله بكفر الأبوين، وما نسب إلى أبي حنيفة في ذلك. كما نسب السيوطي إلى الرازي قوله بعمومة آزر لإبراهيم، وأنه ليس أباً له، وهو ما نقله عن السيوطي غير واحد، لكن الدكتور الجباري بيّن عدم صحة هذه النسبة، وأن الرازي قائل بنقيض ما نسب إليه، وأورد كلامه من مصدره.


والمنهج ذاته اعتمده الباحث في نسبة السيوطي إلى البيهقي قوله بعدم بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملائكة، وبيان خطأ ما ادعاه غير واحد أن الرازي حكى الإجماع على عدم هذه البعثة.


أما بالنسبة إلى مناقشته للعلماء، فلم يورد الباحث آراء غيره مسلّما مذعنا، بل ناقش وحاجج، وانتقد ورجح، فناقش ابنَ العربي في مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه، وانتقد مواقفه من آل البيت، وناقش الإمام ابن عاشور في قوله بعدم إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجن، إضافة إلى مناقشات أخرى.
وختم الباحث دراسته بملحقين اثنين، أحدهما خصصه لمتن عقيدة الإمام ابن الصديق، التي وسمها بعقيدة الفرقة الناجية، وأورد في ثانيهما مراسلتين للإمام مع أحد تلاميذه، حول قضايا عقدية، إذ نصحه من خلال إحداهما بالعكوف على قراءة العقيدة المرشدة، وكتب له نصها بخط يده.

Share
  • Link copied
المقال التالي