روح طريق الوحدة التي شيدت سنة 1957، باقتراح من الراحل المهدي بنبركة وبأمر من السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه، وشارك فيها آلاف الشباب، بمن فيهم الملك الراحل ولي العهد آنذاك الحسن الثاني رحمه الله، تحتاج إلى جسد يحملها ويحتضنها من جديد ويحركها في الفضاء العام في المغرب.
طريق الوحدة التي ربطت جزء من شمال المغرب بجنوبه، تحمل رمزية سياسية كبيرة، لا زال مغرب اليوم بحاجة إليها. إنشاء هذه الطريق رسخت غداة الاستقلال اختيارات المغاربة في الحفاظ على قيم التضامن والتعاون والمحبة والتطوع. طريق انصهر فيها الشباب من كل المشارب السياسية، وجسدت مدرسة للتواصل بمواصفات بيداغوجية سياسية، للتربية الوطنية الحقيقية للتدريب والتكوين على حمل هموم الوطن والأمة، والتجرد من الأنانية والمصلحة الشخصية العابرة لفائدة الروح الجماعية في تفكيك الهم العمومي للجماعة المغربية ككل.
لذلك يمكن القول أن ما فعله الرواد غداة الاستقلال في عملية إنشاء هذه الطريق، شكل إجابة عميقة على سؤال الهوية الثقافية للمجتمع المغربي. إجابة كانت موفقة في التعبير عن تحديد معالم الهوية الجامعة البناءة، التي تتعرض اليوم لضرب في القلب، من قبل تعبيرات هوياتية فرعية قاتلة، يجسدها التعبير العنيف بكل أشكاله، لا يختلف فيه عنف الملاعب عن عنف الفساد السياسي والمالي أو عنف التطرف أو الغلو الديني.
طريق الوحدة كمشتل ثقافي إنساني فرعي، كان بمثابة مختبر كبير لعينات اجتماعية مغربية، ساهمت بسواعدها لإعادة بناء المغرب الجديد. هذا المشتل العميق أعاد تعريف و تحديد وتأكيد ثقافة المجتمع المغربي، حاملة قيم جماعية أصيلة.
غير أن تراكمات سياسية وأخرى اقتصادية دمرت بعضا من لبنات وأسس هذه الثقافة، فصرنا إلى ما صرنا إليه اليوم من اشتباكات جماعية ثنائية فرعية ومركزية، تشل جزءا من طاقة الأمة وتعيق حركتها. بعض العوامل الاقتصادية كخوصصة عدد من المرافق العمومية، و السماح للسوق بتوجيه ثقافة و علاقات الدولة والمجتمع، كانت أحد مسببات الجنوح نحو الفردانية المتطرفة على كل المستويات، وبالتالي قضت على جزء من تلك الهوية الجماعية البانية، وأطفأت شعلة قيم التطوع والخدمة العمومية المجانية لدى فئات الشباب تحديدا.
وإذا وجهنا النظر قليلا في أهم الشعارات المرفوعة في مغرب اليوم، نجد شعار محاربة الفساد يستأثر بالمشهد. شعار يتجه مباشرة، بوعي أو بدونه، نحو الفساد المالي والإداري ونحو سلوكات الريع. غير أن أهم فساد أصاب الدولة والمجتمع هو الفساد هو الإفساد الثقافي القيمي. الفساد المالي أو الإداري ما هو إلا تعبير فرعي عن الفساد القيمي. فساد ثقافي مصدر باقي الأوبئة الاجتماعية التي نعيش، لأنه خلق تدافعا اجتماعيا عنيفا وغير طبيعي. وسيدوم هذا الوضع طويلا، وقد يفضي إلى اشتباكات أكبر، إذا لم ينتبه الجميع إلى أن باقي أنواع الفساد ستستمر وستعمر طويلا مع بقاء الفساد القيمي، الذي ينتج نفسه في أشكال ووجوه متعددة.
اليوم، المغرب بحاجة إلى إشراك الشباب في معركة البناء الجماعي. ولعل بوابة التطوع والخدمة المدنية العمومية أفضل بوابة لإعادة نشر القيم وردم الهوة بين اللاعبين الرئيسيين و المتفرجين على الهامش. الدولة والأحزاب السياسية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى، للتفكير الجماعي في إعداد مخططات تهدف إلى إعادة مأسسة قيم التطوع والتربية على الخدمة المدنية العمومية.
هذا التأسيس الجديد لروح طريق الوحدة، بإشراك الشباب في الإجابة على سؤال العمل الجماعي، سيجدد الانتماء ويقوي الارتباط. إشراك عبر مؤسسات وهياكل الدولة والجماعات الترابية والأحزاب السياسية. إشراك ينبغي أن يخلق انتشارا كثيفا في جميع القطاعات ولو بشكل موسمي، في المستشفيات، في المدارس، في الأوراش العمومية، في الجماعات المحلية، في القرى والبوادي وغيرها. انتشار الطاقات الشابة يمكنه أن يكون مفتاحا للتكوين والتدريب والتهييء لتحمل المسؤولية الإدارية والسياسية، وأيضا يساهم في فك الضغط عن مرافق الدولة و يجسد أداة لخدمة القرب، بل الالتصاق بالمجتمع.
مأسسة قيم التطوع والخدمة المدنية العمومية، لا شك أنه سيخفف مع الوقت حدة سوء التفاهم الكبير بين الهوامش والمراكز، وسوف يحيي لا محالة ثقافة الحرص على الأشياء المشتركة ومن أهمها الوطن.
*باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )