Share
  • Link copied

مع الأنثربولوجية زكية زوانات في مؤَلّفها “ابن مشيش شيخُ الشّاذلي” (1)

هذه الورقة تـَذكار بسيط للراحلة الدّكتورة زكية زوانات (1957 ـ 2012) رحمها الله، واعتراف بما أثرت به المكتبة المغربية، وهو إثراء كفيل بأن يسلكها في زمرة الخالدين، لقد فارقتنا المرحومة، لكنها خلفت عددا من الطلبة والأصدقاء والقرّاء المعجبين ونحسب أنفسنا منهم، وعلى كل حال فأستاذيتها وإشعاعها ثم تواضعها وإنسانيتها، علة ضرورية تفسر هذا الاحتفاء الذي لا زالت تلاقيه كتبها ومقالاتها.

ويأتي كتاب المرحومة زكية زوانات “ابن مشيش شيخ الشّاذلي” كعلامة فارقة في سيرورة إنتاجها التأليفي والإبداعي، وقد صدر عن مطبعة النّجاح الجديدة بالدّار البيضاء سنة 2006 في 419 صفحة بترجمة الأستاذ أحمد التوفيق بعد صدور الطبعة الفرنسية سنة 1998.

لقد جعلت هذه الفقيدة من التصوف “أسطورتها” الخاصة بحسب الرّوائي باولو كويلو في رائعته الخيميائي، وكان اختيارها الشّيخ عبد السّلام بن مشيش موضوعا للتاليف نابعًا من مكانته كرمز دينيي وروحي وكقطب أول بشمال المغرب، ولمساهمته في تاريخ التصوف، إذ جسد بداية استقلال التصوف المغربي عن المقامات المتعددة لعبد القادر الجيلاني بالمشرق، وهو عامل تأسيسي يفسر الوظيفة التوحيدية المنسوبة إليه عموما، ومن هنا ندرك سر انتماء أغلب المشارب الشّاذلية إليه في شكل قرابة روحية طرقية، وأحيانًا قرابة نـَسبية يتداخل فيها الانتماء السّلالي بالصوفي.
وفيما يلي قراءة سريعة في فصول هذا الكتاب:

ـ المقدمــــــــــة:

صدّرتها المؤلفة بالإشارة إلى واقعة زيارة أحد كبار المتهممين بابن مشيش وهو شيخ الأزهر الدّكتور عبد الحليم محمود الذي ألحّ في زيارة هذا الشّيخ سنة 1980 ثم الكتابة عنه، وقد كان في هذه الرّمزية ما حفز المؤلفة على إفراد هذا الشّيخ بدراسة مطولة تتغيى تسوية ملامح واحد من الوجوه المؤسسة للتصوف المغربي و”وضع شخص الوليّ في مجاله وتحقيق نسبه وإظهار معالم بارزة من السّياق الذي عاش فيه بين 560 ه و625 ه “وبالرّغم من ندرة المصادر والإشارات الخاصة بابن مشيش فإن تبلور مذهبه من خلال تلميذه المفرد أبي الحسن علي الغماري الشّاذلي سيعطي للتصوف الإسلامي نسغا جديدا وحيوية طالت المشرق والمغرب، وسيكون من وكد الباحثة محاولة رسم مخطط لأفكاره الشّيخ وبيان امتداداتها في الفكر الصّوفي بالاعتماد على آليات القراءة وجماليات التقبل التي حظيت بها صلاتـُه الماتعة.

من هذا المنطلق سيتضح التصور المنهجي الذي سيحكم الكتاب وهو تصور يزاوج بين الانثربوبوجيا الدّينية والاشتغال الفيلولوجي، في قراءة المصادر المتنوعة ومن بينها : سبك المقال لابن الطواح – لطائف المنن للسكندري – درة الأسرار لابن الصّباغ – المفاخر العلية لابن عياد الشّافعي.

الفصل الأول : مولاي عبد السّلام بن مشيش في عصره.

تشير المؤلفة بدءا إلى أن الشّيخ ابن مشيش يمثل حقيقة اللقاء بين مؤسسة الشّرف ومؤسسة التصوف وهما المؤسستان اللتان كوّنتا حقيقة الكيان الرّوحي للثقافة المغربية كما يمثل الحلقة الرّابطة بين المظهر الأوّلي للتصوف “ما قبل تكوين الطرق والطوائف” ( المستفاد للتميمي – التشوف لابن الزيات…) وقد كان من خصائص صوفية هذه المرحلة: الأمية – السّند المشرقي – العناصر الأندلسية- غلبة الجانب الأخلاقي والاجتماعي – غلبة العنصر الأمازيغي، والمظهر المرحلي اللاحق أي حقبة تأسيس إحدى أهم الحركات الصّوفية وهي المدرسة الشّاذلية. وفي هذا الإطار تتحدث المؤلفة عن النسب الشّريف لابن مشيش كاشفة عن انتشار أبناء وحفدة المولى إدريس في ربوع المغرب وتمركز طائفة مهمة منهم بالشمال المغربي خاصة بمنطقة غمارة، وبالرغم من سكوت المصادر عن هذه الطائفة خلال العصرين المرابطي والموحدي لعزوفها عن السّياسة وبعدها عن الأحداث القائمة، فإننا لانعدم من علماء الأنساب كالخروبي وابن زاكور.. تنصيصا على صدق الانتساب : عبد السّلام بن مشيش بن أبي بكر بن علي بن حرمة بن عيسى بن سلام بن مزوار بن علي حيدرة بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله المهدي بن الحسن المثنى بن الحسن السّبط بن علي وفاطمة ( أسماء عربية- أسماء متعلقة بمعاني الشّرف – لفظة مشيش من المش.).

وكما سكتت المصادر عن الأسر الشّريفة بغمارة ستسكت عن أولية الشّيخ وطفولته وستتكتم عن دراسته ومشيخته.. غير أن الرّواية الشّفوية ستتدخل لرتق الفتق فتشير إلى زملائه في حفظ القرآن وإلى شيخه في المدد منذ كان عمره سبع سنين..الصلاة المشيشية تترجم ” سمو روحانيته وعمق علمه الاصطلاحي”.

غير أن ما نطمئن إليه من كل هذا هو خبر اللقاء بين ابن مشيش وتلميذه أبي الحسن الشّاذلي (قراءة النص ص 37) وهو لقاء استثنائي حافل بدلالات رمزية وبؤرة معنوية تؤكد حقيقة ابن مشيش من خلال حقيقة تلميذه. وهو ما سيتناسل في الأدبيات الصّوفية في شكل تعاليم وممارسات ستكون المدرسة الشّاذلية مجلاها الأعظم. أما وفاة الشّيخ ابن مشيش ومقتله علي يد ابن أبي الطواجن الكتامي الثائر بسبتة فتلقي ضوءا على اختلال الأحوال بهذه المنطقة بعد هزيمة الموحدين في وقعة العُقاب، إذ كان هذا الثائر يرى في الشّيخ المعروف بتسننه وتحققه معيقا لمشروعه الثوري، وعلى كلّ فكرامة الشّهادة ستبرز موت الشّيخ كحدث باهر طبع نهاية الحياة الدّنيوية لرجل استثنائي يذكرنا بالحلاج في قوله:

اقتلـــــــــــوني يا ثقاتي إن في قتلــــــــي حياتي
و مماتي في حياتــــــي وحياتـــــــي في مماتي

كل هذا سيؤسس لنموذج الكتابة المنقبية للشيخ ومدرسته وسيتداول المؤرخون بصناعتهم والمنقبيون بعجائبيتهم بناء حياة جديدة لان مشيش وتلميذه الشّاذلي.

يتبع…

Share
  • Link copied
المقال التالي