لماذا تُثار حفيظة الإسلاميين عند كل محاولة نقد جادة؟ لماذا تشعر “قيادات” الحركة الإسلامية أنها شخصيات مهزوزة لا تثق في ذاتها ؟ ولماذا يرفضون حتى التفريق بين النقد وبين الطعن ؟ هل صحيح أنهم فوق النقد ؟ وأن توجيه النقد إليهم طعن مباشر في الدين و سعي للنيل منه؟ بل لماذا يتحول مُمارس النقد إلى عدو مباشر وحقيقي “للدعوة” و “الدعاة”؟ ولماذا يُعّد النقد موضوعا حساسا ومثيرا بالنسبة للإسلاميين؟ .
على الرغم من أن القرآن الكريم نفسه يتضمن هذا اللون من النقد البناء المتمثل فيما وجهه للصحب الكرام و الرعيل الأول إذ نبههم إلى بعض عيوبهم و نقائصهم التي ينبغي عليهم تجاوزها، من مثل إخباره يوم أحد، أن منهم من يحب الدنيا ومنهم من يحب الآخرة في إشارة واضحة منه إلى أن من أهم أسباب هزيمتهم التعلق بالدنيا، ليكون الانتصار مرتبطا بالحرص على الموت وطلبه في مظانه، و من مثل تنبيهه إياهم يوم حنين إلى أن النصر في النهاية هو من عند الله وليس متعلقا بكثرتهم و وفرة عددهم كما ظنوا.
وعلى الرغم من أن القرآن الكريم يتضمن أيضا هذا اللون مما اعتبره المفسرون عتابا للنبي” ص” من قبل ربه، والعتاب هنا باعتباره تقويما لفعل النبي” ص ” وتسديدا له، ليس إلا مفردة مهذبة تليق بمقام النبوة وتناسبه، وإلا فلا فرق بينها وبين ما ندعوه نحن بالنقد، وذلك في مناسبات متعددة منها قوله تعالى “عبس وتولى أن جاءه الأعمى” و “ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض” و “عفا الله عنك لما أذنت لهم” وهي آيات معروفة مناسبات نزولها ومشهورة، وبالتالي لا داعي لإعادة سردها هنا.
وعلى الرغم أيضا من أن الإسلاميين ـ كغيرهم من التنظيمات والحركات ـ “يفهمون” أهمية النقد و” النقد الذاتي ” بالخصوص ويُقدرون خطورته ـ بالنسبة للحركات ـ ودوره في تجديدها وتقويتها وتطويرها، بل ويكتبون عن هذه الأهمية ويثمنونها ويبينون قيمتها” الاستراتيجية ” بالنسبة لتلك الحركات.
على الرغم من كل ذلك، إلا ان الإسلامين اليوم لا يقبلون من يوجه إليهم عيوبهم ومن يبين لهم نقائصهم ويدلهم على مكامن ضعفهم ، وهم الذين ما فتئوا يرددون عند كل مناسبة قولة الفاروق” لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها” و قولته المشهورة” رحم الله من أهدى إلي عيوبي” وقول الاخر “المؤمن مرآة أخيه” أي يُبصره بعيوبه وينبهه إليها لتفاديها.
أقول: على الرغم من ذلك إلا ان الحركة الإسلامية، قياداتها أقصد ، لا تزال مصرة على اعتبار نفسها فوق البشر، وفوق قوانين البشر، فتأبى أن يُمَارس عليها النقد، وأن يغامر أحد ما فيكشف أخطاءها وخطاياها وجناياتها في حق الله، وفي حق الإسلام ، وفي حق الناس الذين وثقوا فيهم.
لقد كتب أبو مصعب السوري كتابه “الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا ” وسجل ردود الأفعال التي أبداها عدد من المنتسبين إلى “الإسلام السياسي” فذهب بعضهم إلى أن هذا النوع من النقد فيه تعريض بالحركة الإسلامية وبشخصياتها، وفيه فضح لها وكشف من شأنه خدمة أعدائها وإبقائها عارية امام خصومها، وتناسى هؤلاء أن أخبارهم والمعلومات المتعلقة بهم أمست مكشوفة ومفضوحة ومتاحة لكل من يطلبها، وان هناك مراكز دراسية وبحثية كبرى تشتغل ليل نهار لتفكيكها وتحليلها ومعرفتها، المعرفة التي تسمح بالقضاء عليها وتدميرها، وأن تلك الدراسات تفهمها وتعرف عنها أكثر مما تعرف هي عن نفسها ، بل حتى أن عددا من المهتمين بهذا النوع من الدراسات، حتى من داخل الإسلاميين أنفسهم، من لا يستطيع فهم “ظاهرة” الحركة الإسلامية إلا بالاعتماد على تلك الدراسات و الابحاث التي تصدر عن تلك المراكز.
وكتب الشيخ فريد الانصاري رحمة الله عليه كتابه “الماتع ” والجيد “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية” في نقد الحركة الإسلامية المغربية وبيان ما أصبحت عليه من الفتنة والضياع وفقدان البوصلة، وتعلق قياداتها بالدنيا ولهفتهم عليها ، فتكالب عليه جمع من “القيادات” وحملوا عليه و شدوا، وأغلظوا له القول، وما كان ذلك إلا محاولة منهم لكتم أصوات العقلاء من داخلها وإسكاتا لها ، حتى تظل تُسوّق للناس أنها على شيء، وأنها الرائد و البديل، في حين أنها لا شيء من كل ذلك.
إن الواقع المزري الذي أصبحت عليه الحركات الإسلامية ،لا يمكن حجبه بالغربال ولا يمكن التستر عليه بمحاولة السكوت عنه، وتجاهل من يكشفه ،فهو واقع ، ويبدو أنه لا يرتفع إلا بعمل ثوري تقوم به الحركات الإسلامية ضد نفسها أولا، وبالدرجة الأولى، قبل أن تدعو غيرها إليه.
فهل تستطيع الحركة الإسلامية اليوم أن تنكر أن تدين قياداتها ـ على الاقل ـ تدين مغشوش وفاسد ،وأنه لا يزيد ، عند التحقيق، عن كونه مجموعة من المحاضرات والمداخلات والكتابات النظرية التي لا نصيب لها من الواقع ولا حظ، وهم الذين كانوا يقولون أن محمدا “ص” لم يكن فيلسوفا ولا متكلما ـ بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن من الكلمتين ـ وما جاء ليلقي المحاضرات ويصوغ النظريات، وإنما جاء ليعلم الناس وليكون لهم نموذجا يقتدون به ، و مثالا يمشون على خطواته وآثاره، وقدوة يسيرون على هديه ومنهاجه ، وأنه “ص” لم يكن يقدم هذا الدين أو يعرضه بالمحاضرات والكتب، وإنما كان يعلم الناس بالقدوة والمثال. فأين هم من هذا ؟ هل تستطيع تلك القيادات أن تنكر أن تدينها ليس إلا تدينا ذهنيا وفكريا ولا علاقة له بالواقع وبشهادة عمر محمود أبو عمر أبو قتادة الفلسطيني الذي قال أن الإسلامي بقدر تقدمه وتدرجه في السلم التنظيمي بقد زهده و تفريطه في تعاليم الشرع وفرائضه و أن المساجد نفسها لا يملِأها إلا “عوام الناس”؟
وهل تستطيع الحركة الإسلامية اليوم، أن تنكر أنها ما توسلت بالفقه والشرع للتأصيل لعزمها على المشاركة في السياسية، إلا للوصول إلى السلطة والحصول على الغنيمة، وأن كل ما كانت تبرر به رغبها في اقتحام عالم السياسة والإسهام في تدبير الشأن العام من مبررات “شرعية” لم يكن إلا كذبا وتحايلا؟ حيث ذهب منظروها في البدء، إلى ان دخولهم في مستنقع السياسة ومشاركتهم فيها، إنما تمليه عليهم مقتضيات السياسة الشرعية القائمة على قاعدة جلب المصلحة وتكثيرها ودفع المفسدة وتقليلها، وأن مغامرتهم تلك إنما تندرج تحت هذه القاعدة وتحت هذا المقصد الشرعي المنيف والشريف ، وروجوا أنهم سيزاحمون الفساد في قلاعه وحصونه، وسيحاربونه انطلاقا من مؤسساته التي يحتمي بها ويمارس بها فساده وإفساده، إلى ما هنالك من هذه الشعارات العظيمة التي لا يمكن إلا أن نثمنها، حتى إذا ما صار لها ما أرادت وتمنت لم تجلب مصلحة ولم تدفع مفسدة ، ولم تكثر مصلحة ولم تقلل مفسدة ، بل على العكس من ذلك ، تحملت وزر كل المفاسد التي تم جلبها في عهدهم، و تحملت وزر كل المصالح التي تم تفويتها بمباركة منهم ؟
وهل تستطيع الحركة الإسلامية اليوم أن تنكر أنها فرطت في كل شيء وتنازلت عن كل شيء، وأنه لم يبق لها إلا تلك الشعارات الكبيرة التي لا تستحقها كوصفها “بالإسلامية ” ، ففرطت بالدعوة إلى الإسلام وفرطت في الدعوة إلى إقامة الدولة “الإسلامية” الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية في الأرض وتحرير الإنسان ، كما كانوا يقولون ويزعمون؟.
وهل تستطيع الحركة الإسلامية أن تنكر أن عددا من أعلامها “الكبيرة” على الاقل، إنما التحق بالدعوة الإسلامية وانتسب إليها كجواب على فقره وعوزه، باعتبار “الإسلام النضالي” إيديولوجيا المحرومين والناقمين، وأنهم بمجرد أن بسطت لهم الدنيا وفتحت لهم انقلبوا عليها: أي على تلك الإيديولوجيا، وعملوا بنقيضها وما تورُطُ عدد من الاسماء ـ التي صدعت رؤوسنا بالحديث عن الاصالة وضرورة الارتباط بها ـ في فضائح أخلاقية وقيمية إلا دليلُ على هذه الدعوى؟
هل تستطيع الحركة الإسلامية اليوم وفي المغرب بالخصوص أن تنكر أن عددا من أسمائها” اللامعة” تستهين بالمنهج الإسلامي وتستخف به إلى أقصى الحدود وأنهم انقلبوا على القاعدة التي كانت الحركات تربي عناصرها عليها أعني قاعدة الشهيد سيد قطب القاضية بان” تبرئة الأشخاص لا يساوي تشويه المنهج “وهي القاعدة الذهبية التي مفادها أن نقاء المنهج وسلامته مقدم على براءة الأشخاص، فراحوا يُكيّفون الإسلام نفسه ليكون ملائما لأخطائهم وخطاياهم.؟
لقد آن الأوان أن تتواضع الحركة الإسلامية وأن تعترف بآفاتها وقصورها وأن تسارع إلى تداركها، وآن الأوان أن تقوم بنقد ذاتي شجاع وثوري تنقذ من خلاله ما يمكن إنقاذه .
صحيح ما ورد في المقال. فهم جميعهم إذا تولوا منصبا حسبوه غنيمة، ولا يتركونه، ويعضون عليه بالنواجد، ويحسبون الاستقالة منه كبيرة، وتولي غيرهم له مصيبة….
ملاحظات على المقال من أحمد الشقيري الديني:
النقد الذاتي مارسته الحركة الإسلامية، وكانت ولا زالت موضع نقد من الشرق والغرب، من العلمانيين والحداثيين وجميع التيارات، من الحكام والعلماء والفلاسفة والمفكرين والمتطفلين، فهي أكثر من صوبت سهام النقد تجاهها في العصر الحديث
لكن هل نقد النقد إذا مارسته الحركة الإسلامية تجاه خصومها أو الغيورين على مشروعها نصنفه بالتشنج ورفض النقد؟!
إذا انتقد لاديني إيماني بالله أو برسالة نبيه وقدم حججه ثم قمت بالرد عليه مقدما حججي وبراهيني، هل أوسم بأنني رافض للتفكير والنقد؟!
يعني لابد أن أسكت تجاه المخالف وهو يتهمني أو ينتقد مشروعي لأنعت بأنني أملك عقلية حوارية؟!
الذي يرفض النقد هو من يرد على منتقديه بالسب والقدح والاتهام العاري عن الحجة والبرهان، أما أن أدافع عن مشروع أقتنع به ولا أجد عند المخالف ما يستدعي التراجع عنه فهذا جهاد القلم.
الحركة الإسلامية لها أخطاؤها وإصاباتها، والله تبارك وتعالى عندما اتهم نيات بعض خلقه فلأنه سبحانه مطلع على سرائرهم، أما البشر فليس لهم أن يخوضوا إلا في ظاهر الأقوال والأفعال، أما النيات فلا قبل لهم بمعرفتها.
ولهذا من يزعم أن الإسلاميين جاؤوا للسلطة ممتطين صناديق الاقتراع والمرجعية الإسلامية التي يتعاطف مع السواد الأعظم لتحقيق مصالحهم الشخصية دون أن يقدم دليلا واحدا على ذلك فلا يجوز السكوت عنه.
الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ينطلق في نقده للإسلاميين من أطروحة فصلها في كتابه البيان الدعوي حيث تبنى ما يشبه الأطروحة العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة واعتبر هذه الأخيرة ليست ذات أهمية بالمقارنة مع مهام الدعاة والعلماء والربانيين المتمثلة في إقامة الصلاة والدعوة لها والعودة للقرآن والدعوة له.
من لم يحدد منطلق الشيخ رحمه الله في نقد المشروع السياسي للحركة الإسلامية لا يمكنه فهم كل ذلك الغضب الذي أنزله بالحركة التي عرف تفاصيل تطورها..
أما عن رقة تدين الإسلاميين فهذا حق مشاهد لاشك فيه، مثل ضعف اهتمامهم بصلاة الجماعة أو تأخيرها أحيانا عن الوقت بسبب تلك الاجتماعات الحزبية الماراطونية..إلخ
لكن هل كان هؤلاء في بداياتهم من رواد بيوت الله أم أنهم نشأوا في مناخ الصراع مع اليسار في الجامعة مع امتلاكهم لغيرة دينية وتطلعهم لإقامة الشريعة؟!