Share
  • Link copied

مستشرق فرنسي يتساءل.. كيف نصون الحوار الثقافي المثمر؟

بيير لوي ريمون*

أكتب هذه الكلمات على خلفية المرسوم الذي صدر عن رئاسة الحكومة المغربية بشأن استعمال اللغتين العربية والأمازيغية في الإدارات العامة وكل ما يصدر عن دواوينها وموظفيها من وثائق رسمية.  أكتب كفرنسي ذي أصول غير عربية يستعمل هنا  بالتالي لغة غير لغته الأم ، بعبارة أخرى، لغة مكتسبة. وباسم الاكتساب تحديدا يصدر هذا الكلام.

كان بإمكاني أن أترك القصة تماما معتبرا إياها قضية “مغربية/ مغربية ” لا دخل لأجنبي فيها. لكن من يمتهن مهنة المستشرق كما كنا نقول سابقا – وهي كلمة أحتفظ بها بالرجوع إلى معناها الأصلي وهو “طلب الشرق” معرفة وعلما، من الأهمية بمكان متابعة خطوة مميزة أقدمت عليها حكومة بلد ذي علاقة وطيدة  معروفة بلغة بلد آخر كونت معه صلات ووشائج كتبها وزن التاريخ على الشريكين، المغرب وفرنسا.

باعتباري مستشرقا، أو مستعربا إن فضلتم، أثمن هذا النهج. أثمنه أولا لأنه يدعو إلى التفريق بين الهوية والثقافة.  فليس معنى أن تتشبع بلغة وكتابها و نمط عيش أهلها، ليس معنى ذلك أن تذوب “ماهيتك” فيها كما يقول الفلاسفة، فتعدو واحدا منها.

دعوني أروي هنا واقعة حدثت لي أيام الطفولة عندما كنت مقيما في المغرب: خطرت على بالي – دون علم من الوالدين الذين غابا عن البيت وقتها – أن أذهب إلى المدرسة لابسا الجلابة  والبلغة، فضلا عن السخرية المشوبة بالاستنكار التي لاقيتها بعين المكان (المدرسة الفرنسية)، نلت ما نلت من شجب الوالدين عند العودة إلى البيت.

لكن بغض النظر عن تصرف صبياني لم يخل من استفزاز حينها، تظهر عبرة مباشرة للقصة على موضوعنا. العبرة في ضرورة التفريق بين الثقافة والهوية.  هنا، حرفت عن دورها  ثقافة وافدة علي- أي الثقافة المغربية-  لأجعل منها عنصرا دخيلا على هويتي لا محل له من الإعراب.

ولو طبقنا عبرة القصة على موضوع مخاطر “التغريب” أو “التشريق” ، وهو في النهاية موضوعنا هنا، نلاحظ كيف تتجلى في خطوة الحكومة المغربية فكرة التمييز بين هوية  يصونها مكوناها اللغويان المؤسسان، اللغتان العربية والأمازيغية ، وثقافة وافدة تعطي كل مكانتها للغات الأجنبية. لهذا، وخلافا لما يمكن أن يتأتى من قراءة متسرعة للمرسوم الحكومي، لم يستثن هذا الأخير اللغات الأجنبية من عنايته بل العكس، حصص توجب الاحتفاظ بها (والإشارة ضمنية هنا إلى الفرنسية) كأداة تواصل في حالتين محددتين:  التوجه إلى “جهات خارجية “، والحاجة إلى اعتماد “مصطلحات تقنية ” تعقد ترجمتها الأمور أكثر مما تسهلها.

لكن أبعد من ذلك: يعتبر موضوع صيانة الهوية الثقافية لبلد، وبالتالي صيانة حضارته،  مشروعا طويل الأمد، نجاحه رهين باستمراريته. من هنا، رغبتي في العودة إلى خطوتين بارزتين اتخذهما المغرب ليؤكد بهما على خصوصيات سياسته الثقافية القائمة تحديدا على إرساء دعائم الهوية دون التراجع عن تكريس الاهتمام بالثقافة الوافدة.

الخطوة الأولى تعليمية، وتتمثل في افتتاح سنة 1989 “الشعبة الدولية” في المؤسسات التعليمية الفرنسية بالمغرب  في مسعى حثيث وناجح لتأصيل أصول التلاميذ الثقافية منذ السنوات الأولى من مراحل التعليم الثانوي عن طريق اشتغالهم على ثلاثة أعمال روائية من الأدب العربي المعاصر. ويستفيد تلاميذ هذه الشعبة من ازدواجية اللغة (العربية والفرنسية) في دروس التاريخ التي يتلقونها مع التمتع بحرية الامتحان عليها باللغة التي يختارونها في البكالوريا.

الخطوة الأخرى اللافتة للانتباه التي اتخذها المغرب في مجال النهوض بخصوصيته الثقافية، خطوة  إعلامية.  في سنة 1980، تفتتح إذاعة ميدي 1 بطنجة ، بإرادة مغربية – فرنسية مشتركة، تمهيدا لتأسيس ما سيصبح مؤسسة إعلامية كاملة بشقيها الإذاعي والتلفزيوني في مسعى لتثبيت محليا وتصدير عالميا هوية إعلامية تؤصل مهنية في التغطية الصحافية بكامل جوانبها (نشرات مفصلة ومختصرة، تقارير مراسلين في أنحاء متفرقة من العالم؛ برامج تحليلية ونقاشية ) وتصميم البرامج الترفيهية. وتكمن خصوصية المشروع في اعتماده المتوازن على اللغتين  العربية والفرنسية مع مراعاة دؤوبة لثراء المضمون وجودة الرؤية النقدية .

من هنا، رغبتي في التشديد عبر  هذه السطور على أهمية التمييز السليم بين ضرورة  الكفاح ضد تحريف الهوية الثقافية وانفتاح هذه الأخيرة على مشارب أخرى، حتى يصبح هذا الانفتاح انفتاحا نافعا وليس شبح انفتاح يتناغم مع تغريب وجه الشرق أو “تشريق” و جه الغرب.

ويضطلع المغرب حاليا بدور أساسي في قيادة هذا الكفاح الذي يضرب جذوره في تاريخ عريق من المقاربة لجوهر المشكلة.

*باحث أكاديمي و إعلامي فرنسي / المقال خاص بجريدة بناصا الإلكترونية

Share
  • Link copied
المقال التالي