في سياق مواجهة تداعيات الأزمة الراهنة على الصعيد الوطني، وفي أفق تصميم النموذج التنموي الجديد، ترتسم ضرورة القيام بتحول باراديغمي Paradigm Change صريح في هيكل الاقتصاد المغربي يرتكز على خمس ركائز رئيسية:
1- العدول عن توجيه الاقتصاد المغربي بشكل مفرط نحو التصدير في إطار تقسيم دولي للعمل يستفيد منه الرأسمال الأجنبي، ولا يحقق استقلالية القدرة على التحكم في سلسلة الإنتاج الوطني وسلسلة تثمين القيمة Chaine de valeur. في المقابل، يتحتم تحويله إلى اقتصاد قائم على الاستجابة للطلب الداخلي مع إطلاق حملة وطنية لتحسيس المواطن المغربي بإيجابيات استبدال الطلب على المنتوجات المستورَدة بالرفع من الطلب على المنتوج الوطني وتمييز هذا الأخير بعلامة أو رمز. إن الاستمرار في الارتهان إلى الاستثمارات الأجنبية يتعارض مع مقومات تحقيق هذا التحول الضروري إذ ينبغي الاعتماد بشكل أساسي على الرساميل المغربية التي باستطاعتها الانخراط إلى جانب الدولة والأبناك وأرباب الصناعة الوطنية في مشروع وطني تعاقدي يهدف إلى تمويل الاستثمارات المُنتجة في القطاع الفلاحي والصناعي والتكنولوجي في انسجام مع أهداف السيادة الاقتصادية.
في نفس الإطار، يجب وضع استراتيجية وطنية لتشجيع المقاولة المغربية المواطِنة التي تراعي في المرتبة الأولى حقوق عمالها ومأجوريها الذين هم في نفس الوقت جزء مهم من الطلب الداخلي المُراد تشجيعه، وسيحقق المغرب حينذاك هدفين بطلقة واحدة، تقليص التبعية إلى الرأسمال الأجنبي وفي نفس الوقت عدم الارتهان إلى الطلب الخارجي من الأسواق التقليدية في سياق التوجه نحو تقوية الشراكة الاقتصادية مع شركاء جدد غير تقليديين وفي مقدمتهم دول البريكس BRICS.
2- لقد كشفت أزمة كوفيد 19 عن الجذور العميقة التي تغذي الأزمات الاقتصادية على صعيد عالمي، و هي عِلاَّت كامنة في الإيديولوجية النيوليبرالية وإيديولوجية العولمة. إن ما قيل عن عودة الدولة الاجتماعية خلال التصدي للأزمة الراهنة لا ينبغي أن يكون فقط توجها لحظيا ومؤقتا، بل من الضروري بالنسبة للمغرب استثمار هذا التوجه من أجل استرجاع التحكم في المؤشرات الماكرواقتصادية وجعلها في خدمة السيادة الاقتصادية. وهذا يقتضي القطع بشكل نهائي مع دوغمائية التوازنات المالية وبنود ما يعرف بإجماع واشنطن، والتي فرضت نوعا من القداسة على سياسات التقشف، ودفعت نحو خفض الإنفاق العمومي في القطاعات الاجتماعية. سيكون من الضروري القيام بمراجعة باراديغمية للإطار الفكري والإيديولوجي لما يعرف بالأورثودوكسية المالية Orthodoxie Budgétaire التي تسهر على إنفاذه مؤسسات بروتون وودز Bretton Woods Institutions (صندوق النقد الدولي و البنك الدولي).
بدأ ينمو الاعتقاد في الوسط الفكري بأن الخروج من قبضة الأزمة البنيوية للاقتصاد المغربي يستدعي تحمُّل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية لمسؤولية التحفيز الاقتصادي Relance Economique بواسطة اللجوء إلى رافعة الإنفاق العمومي و توجيه الطلب نحو المقاولات والشركات المغربية بواسطة المشتريات العمومية Commande Publique. سيكون الدَين العمومي الداخلي سندا ضروريا لإنجاح التحفيز الاقتصادي لكن شريطة توجيهه عن طريق النظام البنكي والمستثمرين المؤسساتيين نحو تمويل استثمارات منتجة للثرورة وقادرة على خلف مناصب شغل في النسيج الاقتصادي والمقاولاتي المغربي، وهو ما سيبعث على التخفيف من أزمتي العرض والطلب في آن واحد.
في صلب هذا التوجه نجد نموذجا اقتصاديا يهدف إلى خدمة اقتصاد منتج للقيمة المضافة، تنافسي وقادر على تلبية الحاجيات الوطنية و تعويض الاستيراد Substitut à l’importation. في المقابل، ينبغي تجنب اللجوء إلى المديونية الخارجية من أجل تمويل الاستيراد و خاصة الواردات غير الضرورية و العالية الكلفة، أو التي يمكن تعويضها بالمنتوجات المصنعة محليا، خاصة في ظل وجود عجز هيكلي في الميزان التجاري المغربي.
3- إعادة التفاوض بصدد اتفاقيات التبادل الحر: لقد حان الوقت للخروج من موقع الطرف الضعيف في اتفاقيات التبادل الحر التي انخرط فيها المغرب منذ حوالي ثلاثة عقود و دعوة الشركاء إلى مراجعة كل هذه الاتفاقيات التي استفادت منها الدول الأخرى خاصة تركيا والصين و دول الاتحاد الأوروبي عن طريق إدخال تعديلات تسمح بتطبيق سياسة حمائية ذكية أو تأهيلية Protectionnisme éducateur حسب تعبير المنظر الاقتصادي الألماني فريديريك ليست Friedrrich List كوسيلة فقط وليست كغاية في حد ذاتها في إطار تعاقدي بين الدولة والفاعلين الاقتصاديين حول تحقيق أهداف محددة على مستوى الجودة والمردودية واحترام المعايير الاجتماعية و الصحية و البيئية، و خلال فترة زمنية محدودة. و الهدف المنشود هو تحقيق درجة من الحماية والدعم للقطاعات والصناعات الناشئة من أجل تقوية تنافسية النسيج الاقتصادي المغربي وتعزيز قدرته على التباري المنصف في حلبة التبادل الحر. ما يعزز من صحة و جدوى هذا الطرح كون جميع الدول التي استطاعت الرفع من تنافسيتها الاقتصادية وخلق القيمة المضافة طبقت في الفترات الأولى من إقلاعها الاقتصادي سياسات تجارية تغلب عليها الحمائية، ونذكر منها كوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا.
4- على مستوى السياسة النقدية، يُطرح اليوم سؤال مهم حول الدور الذي يمكن لبنك المغرب أن يلعبه باعتبار أن السياسة النقدية شأن سيادي و ذو تطبيقات سيادية فيما يتعلق بتصميم وتنفيذ السياسة الاقتصادية. لماذا يبقى دور بنك المغرب منحصرا في الحفاظ على استقرار الأسعار في الوقت الذي تتجه فيه اليوم معظم البنوك المركزية بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي و البنك المركزي الأوروبي إلى الرفع من ضخ السيولة في اقتصادياتها؟ من هذا المنطلق، يستطيع بنك المغرب أن يلعب دورا مهما في تحفيز الاقتصاد المغربي و دعم التشغيل و تشجيع الاستثمارات المنتجة عبر شراء المديونية العمومية Dette Publique للتخفيف منها و توجيهها نحو خلق الثروة و فرص الشغل و الرفع من القدرة الإنتاجية و التصديرية للاقتصاد المغربي في إطار تعاقدي مع الدائنين سواء كانوا أبناكا تجارية أو صناديق استثمارية أو مستثمرين مؤسساتيين. في هذا الصدد، يذهب العديد من المحللين الاقتصاديين إلى إمكانية تجاوز المقاربة الأورثودوكسية لاستهداف معدل التضخم خاصة و أن أزمة الطلب الداخلي ستفضي إلى حدوث انكماش في الأسعار Déflation des prix. في إطار سياسة اقتصادية مندمجة قوامها الاستثمار المُنتج، من شأن ضخ السيولة بشكل متُحكم فيه في الاقتصاد المغربي و ما قد يترتب عن ذلك من ارتفاع طفيف في معدل التضخم أن يخفف من عبء المديونية العامة و الخاصة و مديونية الأسر وأن يُنشط مستويات الاستهلاك الداخلي و أن يدفع نحو تحريك الأموال الراكدة و المتراكمة بفعل الممارسات الاقتصادية الريعية Comportement Economique Rentier وفقا لتجارب دولية منها تجربة أوروبا في حقبة الثلاثين سنة المجيدة Trente Glorieuses عقب الحرب العالمية الثانية.
5- إن تمويل الدَين العمومي الموَجَّه نحو الإنفاق العمومي المنتج ينبغي أن يكون مصحوبا بسياسة ضريبية تستجيب لمعايير العدالة و الإنصاف و الكفاءة عن طريق احتسابها بشكل تصاعدي و إقرار الضريبة على الثروة و على المداخيل الكبرى و مراجعة بعض الاختيارات الضريبية التي تشجع على مظاهر اقتصاد الريع، مع إشراط الحوافز الضريبية بمدى المساهمة في الإيرادات و إحداث فرص الشغل المستدامة طبقا لما جاء في التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي الذي يحمل عنوان “نظام جبائي: دعامة للنموذج التنموي الجديد”. تشكل مرحلة التعلم من الأزمة ظرفية ملائمة لتنزيل ورش العدالة الجبائية المنصوص عليه في الفصل 39 من الدستور، و بالاعتماد على زخم التوصيات المتقاطعة التي جاءت في هذا التقرير، و تلك التي أفرزتها المناظرتين الوطنيتين الثانية والثالثة سنتي 2013 و 2019 على التوالي.
*أستاذ القانون الدولي بجامعة ابن زهر بأكادير
تعليقات الزوار ( 0 )