لقد حاولت نشر هذا النص الذي بين أيدينا، بعد كتابته مباشرة بعد إعلان قيادة حزب الاستقلال عن اللقاء بالمناضل الكبير بنسعيد آيت يدر، أواخر شهر يونيو 2019؛ بيد أنه لم يُنشر لأسباب عدة، لعل أهمها عدم توفر الجو المناسب في تلك اللحظة، مع التخوف من عدم تغليب لغة الحوار والعقلانية على لغة العاطفة والمزاجية، عند قراءته؛ لكنه، نرى لزام التطرق لهذا الموضوع المعقد اليوم، خصوصا أن المغرب مقبل على صياغة نموذج تنموي جديد يسعى لمواكبة كل التطورات، لاسيما المتعلقة بالشأن السياسي والاجتماعي، فضلا عن بدء حزب الاستقلال في فتح الحوار، بشكل علني ورسمي، وذلك من خلال عقد ندوة وطنية، يوم 27 مارس 2021، تحت عنوان: “أحداث الريف لسنتي 1958 و1959: استقراء الذاكرة، شهادات ورؤى متقاطعة“؛ كما نتحين الفرصة لدعوة كل المعنيين بالأمر توفير الجو المناسب لإخراج ما توصلت إليه اللجنة المكلفة بهذه القضية، بل نتمنى من قيادة حزب الاستقلال إمداد الرأي العام بمستجدات الملف، بطبعها ونشرها لتبقى متاحة لكل الباحثين والمهتمين.
قبل البدء في الحديث عن موضوعنا، لابد من التنبيه إلى قاعدة مجمع عليها بين أهل الأرض والسماء، والتي تتمثل في إمكانية ارتكاب الخطأ من طرف الإنسان، حتى صار شعار كل واحد منا هو: ” كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون“، كما جاء في الحديث الشريف.
لذا، من العدل عند الحديث عن أخطاء الأخرين استحضار هذه القاعدة المجمع عليها، بل لابد من حسن التعامل، لاسيما مع من أبدى اعتذاره واعترافه بالخطأ.
إذن، فإن انطلاق الاحتجاجات بمدينة الحسيمة، بعد مقتل محسن فكري رحمه الله، فتح نقاشا مجتمعيا، وأعاد إلى الأذهان كل الأحداث التي عرفتها الحسيمة والريف عموما؛ ولعل أبرز حدث وقع بُعيد الاستقلال هو انتفاضة الريف، وما صاحبها من أحداث، مازال أثرها يشوش على علاقة الريف بالمركز، رغم كل المبادرات التي اتُخذت، بما في ذلك مبادرة الإنصاف والمصالحة؛ وعند التمعن أكثر في الخطاب السائد، نرى أن كل الأصابع تشير إلى اتهام أعرق حزب في تاريخ المغرب، بل أصبح عند بعض النشطاء في العمل السياسي أو الحقوقي هذا الاتهام بمثابة حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش؛ وفي كل مرة يتحين خصوم هذا الحزب الفرصة لتحميله مسؤولية أحداث الريف لسنتي 1958 و1959، بل لا يتركون الفرصة لأحد تقديم أي وجهة نظر أخرى.
في هذه الظروف ورغم كل هذه الادعاءات، أخذ حزب الاستقلال المبادرة -على لسان أمينه العام “نزار بركة” عند زيارته للحسيمة 2018 – فتح ملف أحداث 58 -59، معلنا بكل جرأة أن حزب الاستقلال مستعد لتحمل المسؤولية إن ثبت تورطه في هذه الأحداث، الأمر الذي استحسنه الجميع، لأن مثل هذه الجرأة قلّ ما يُخرج بها من طرف المنظمات السياسية؛ كما نجد من اعتبرها نوعا من المزايدة السياسية لما يشهده الريف من صراعات سياسية على خلفية الحراك، لكسب التعاطف ونيل ثقة الريفيين لحل الأزمة المعاشة، وبعدها تجاهل الملف ونسيانه مع مرور الوقت.
لكن المفاجئة الكبيرة التي خلقها حزب الاستقلال في شخص أمينه العام هي مباشرة تنزيل محتوى المبادرة بعد انتهاء لقائه بالحسيمة، وذلك بتشكيل لجنة خاصة لمتابعة هذا الملف وجمع كل المعطيات، ليعطي درسا سياسيا لخصومه الذين تمنوا فشل المبادرة لإثبات سوء ظنهم؛ بل الأكثر من هذا، عمل الحزب على مواصلة العمل في البحث وتقصي الحقائق، بخصوص الملف الشائك الذي بقي على حاله إلى حدود هذه اللحظة، وعدم التخلي عنه لكثرة انشغالات الحزب؛ والجدير بالذكر، أن الرأي العام، بما فيهم خصوم الحزب، لم يتحدثوا عن المبادرة وأصابها النسيان، مثل ما وقع لكثير من المبادرات والقضايا.
رغم كل ما سبق، وبعد خروج اليساري آيت يدر في الإعلام ممدا قادة حزب الاستقلال بوثائق تهم الملف المدروس، لم يستسغ بعض الشخصيات الأمر، وحاولوا من خلال خرجات في مواقع التواصل الاجتماعي التنقيص منه، بل لم يجدوا حرجا في الحكم على المبادرة قبل النظر في الوثائق المعتمدة بشكل عام ولا المنهجية المتخذة في دراسة الملف، ما يعني أن موقفهم ثابت لا يتغير رغم الجرأة التي اتسم بها حزب الاستقلال والإصرار على تنفيذ الوعد الذي أطلقه الأمين العام خلال لقاء عابر؛ وهذا، ما يثبت لنا أن منطق المجازفة في التعميمات وإرسال الأحكام، مهما كانت المبادرة، قائما، لا يتزحزح؛ بل يعتبر عائقا لتحقيق أي مصالحة أو تنمية؛ ولعل ما يحز النفس، هو أن جل من يتحدث في هذا الملف، يستبعد إفراد حزب الاستقلال في تحمل مسؤولية الأحداث، وإنما يأخذ بالرأي القائل بتحميل المسؤولية الكاملة للدولة والمخزن؛ ولعل هذا ما تم استنباطه، خلال جلسات نقاش خاصة مع بعض المهتمين، لكن لا يملكون الجرأة اقتسام هذا مع الجميع، ولا ندري السبب هل راجع للخوف من قول الحقيقة، أو لاعتبارات أخرى نجهلها.
ولهذا، فإن الإنصاف يقتضي الأخذ بحسن النية تجاه أي مبادرة تصبو لإيجاد مخرج لأزمتنا، وكما يستلزم الوقوف عند جميع المحطات، مع القيام بتحليل مفصل لها، لاستخراج كل ما يفيدنا في حل الأزمة؛ دون التنازل عن حق مراجعة النتائج المتوصل إليها ومعاودة النظر فيها عند مقارنتها بما نملك من وثائق وحقائق؛ بل الواجب الأخلاقي يفرض علينا امداد كل من يحقق في هذا الملف بالوثائق التي في حوزتنا، لنكون مشاركين في الوصول إلى الحقيقة حتى نتجاوز كل الأحداث التاريخية التي تعيق تقدمنا بشكل عام.
وعلى سبيل الختم، يجب التأكيد على أن ملف 58-59 لا يمكن حسمه بجرة قلم أو خرجة فايسبوكية، وإنما لابد من التريث واستعمال المنطق السليم، وذلك بجمع كل المعطيات ذات الصلة بالملف، مع تقبل نتائج التحقيق والتحليل، مهما كانت صادمة؛ بل مهما كانت مُستبِعدة لحزب الاستقلال، أو مُدخلة أطرافا أخرى، حيث أن البعض يعمل على تجاهل تورطها لأسباب نجهلها، ما يجعل المنصف يُرجِّح الرأي الذي يتردد كثيرا على ألسن كثير من الباحثين، وهو: “أن حزب الاستقلال كان مستهدفا، وما أحداث 58-59 إلا فرصة اُستغلت لضرب الحزب وإضعافه”. وأخيرا، لابد من التذكير أن معالجة مثل هذه الملفات يقتضي التسلح بالجرأة الكافية، مع استحضار الحس الوطني، والتشبث بثوابت الأمة، المتمثلة في الدين الإسلامي الذي يدعو للعفو، والوحدة الوطنية التي تستوجب مراعاة مصالحها، والملكية الدستورية التي يجتمع تحت رايتها مختلف مكونات المملكة المغربية.
اللهم ارزقنا الحقيقة وقدرة تحملها مهما كانت صادمة،
اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.
تعليقات الزوار ( 0 )