كنت أتساءل باستمرار عن سر الشعار الذي رفعته الدول العربية، منذ نكبة فلسطين، والشعار هو “فلسطين قضية العرب الأولى”. ومفارقاته أنه لم يسمح للفلسطينيين أن يعلنوا حرب تحرير وطنهم من ربق الاحتلال الصهيوني. وما أعطى هذا الشعار بريقه الظاهري أن الدول العربية “المستقلة” آنذاك اشتركت جميعها في الحرب الأولى ضد اليهود الصهاينة سنة 1948، التي كان من نتائجها طرد أغلب الفلسطينيين من ديارهم ليصبحوا لاجئين في الجزء غير المحتل من فلسطين، المعروف بـ”الضفة الغربية”، وبـ”قطاع غزة”، أو مشتتين في بلاد عربية محاذية. وتم تقسيم مدينة القدس إلى شرق يسكنه فلسطينيون وإلى غرب تمتلكه إسرائيل الوليدة. قبل أن تقرر أمريكا ترسيمها عاصمة لإسرائيل مؤخرا، والدول العربية ليس بوسعها إلا التسليم، مع ترديد شعار فلسطين…

لكن ما يجدر التذكير به، هو أن إنجَلترا وفرنسا سمحتا وساعدتا على تأسيس كيانات (دول) عربية في الأردن، ولبنان، وسوريا، والعراق، بناء على تفاهمات “سايكس – بيكو”. الإنجليزية الفرنسية، المنجزة سنة 1916؛ ولكنهما لم تسمحا بتأسيس كيان سياسي وطني للفلسطينيين. كما أن الدول العربية التي كانت قائمة يومذاك لم تساعد من جانبها على قيام دولة للفلسطينيين إلى جانب دولة إسرائيل، تطبيقا لقرار الأمم المتحدة رقم 181 الصادر سنة 1947.
كان يمكن لدولة فلسطين أن تتأسس على القسم الذي لم تستول عليه دولة الإسرائليين الصهاينة. وحينما دعا الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، العرب في وقت لاحق، قبول قرار التقسيم الأممي، وتطبيق منهجية “خذ وطالب” اتهمته الدول العربية المشرقية بخيانة قضية فلسطين، قضية العرب الأولى!!! في الوقت الذي مُنِحت فيه الضفة الغربية لحكم الأردن، زائد تسيير المسجد الأقصى. وتولت مصر حكم قطاع غزة. وهكذا بدا التوافق بين إسرائيل والعرب على تقسيم وطن فلسطين، وحرمان أصحابها مما تبقى لهم من وطنهم، مقابل شعار “فلسطين قضية العرب الأولى”.
أُبعد الفلسطينيون، أو غُيّبوا، عن حكم الجزء غير المحتل، وعن الكفاح لتحرير أرضهم وإقامة دولتهم، بمرجعية قانونية دولية، على مناطق التقسم الدولي لفلسطين، أي الجزء الذي لم تحتله إسرائيل. لقد اكتفى العرب بالخطابات المدبجة بشعارات قومية تَعِد بتحرير فلسطين من “دويلة إسرائيل”، كما كانوا يطلقون عليها. ويستمر شعار فلسطين… مروَّجا بقوة من قبل قادة الانقلابات العسكرية الذين جلبوا إلى معسكراتهم كثيرا من حاملي الفكرة القومية العربية، لكي يكونوا متوازنين مع اليهود الذين تأبطوا فكرتهم القومية متمثلة في الصهيونية.
والنتيجة: أن المواجهة الظاهرية أمست بين دول الانقلابات العسكرية، التي زعمت أنها تمثل القومية العربية وبين والقومية الصهيونية التي تبناها اليهود المستعمرون لفلسطين. ومن ثم تم تحويل أي شكل من أشكال كفاح الفلسطينيين ضد الاستعمار الصهيوني إلى مجرد “صراع عربي إسرائيلي”، وانطلت المكيدة والحيلة على أغلب الفلسطينيين الذين اعتبروا هويتهم عربية، قبل أن تكون فلسطينية، فشاعر الفلسطينيين الكبير محمود درويش قال في قصيدة له “سجل أنا عربي”، قبل أن يعلن في قصيدة له أكثر شهرة من الأولى “وحدي أدافع عن هواء ليس لي”. ونصادف فلسطينيين يرددون، بوعي أو بدون وعي منهم، أن العرب هم من سيحرر فلسطين، وأن كل من يقول “فلسطين فلسطينية” ليس إلا داعيا للدول العربية للتطبيع مع إسرائيل.
والغريب في الأمر أن الدول العربية لم تمنع الكفاح المسلح عن الفلسطينيين فحسب، بل منعتهم من كل أشكال الدفاع عن وطنهم، إلى غاية مؤتمر القمة العربي بمصر سنة 1964، حين سمح لهم بتأسيس “منظمة التحرير الفلسطينية”، تحت إشراف جامعة الدول العربية، وإمرة الدول التي كانت تتبنى شعارات القومية العربية. وأصبحت بعض العمليات الفدائية ضد إسرائيل بعد هزيمة 67 تتم بإذن وترخيص من دول الطوق.
كُشِفت، إذن، عورة الدول العربية مجتمعة في حرب 5 يونيو 1967 حين انهارت أمام إسرائيل في ساعات قليلة. وكانت هزيمتها أسوأ من نكبة 1948. فقد استولت دولة القومية الصهيونية على كل أراضي فلسطين، زائد سيناء المصرية، زائد الجولان السورية، زائد انهزام وانهيار معنويات العرب من الخليج إلى المحيط. ورغم ذلك استمر شعار “فلسطين قضية العرب الأولى”. ونعتقد بأن الوعي بالمخاطر الحقيقية على فلسطين وعلى مستقبل الشعوب العربية نفسها لم يكن متصورا تصورا يلامس حقيقة الانتظارات، كما أنه لم يحظ بتقويم وتقييم من قِبل الخبراء والحكماء.
لجأ الحكام العرب، والحال هذه، إلى حيلة جديدة لإلهاء شعوبهم واستغفالهم بعبارات خرجوا بها من مؤتمر الخرطم في خريف 1967 معروفة بـ”اللاءات الثلاث “: لا تفاوض، لا اعتراف، لا صلح مع إسرائيل.
لكن الكل يعلم أن دولة مصر العربية التي كانت بمثابة قاطرة قومية للدول العربية، هي أول من خالف لاءات الخرطوم منذ 1978، وألغت الالتزام بها، حين فاوضت، واعترفت، وصالحت دولة اليهود الصهيونية، فانتقلت من دولة قائدة ومتزعمة للقومية العربية ولشعار فلسطين، إلى دولة تعادي لاءات الخرطوم، وتجر دولا عربية أخر إلى إسرائيل جرا مباشرا بدون مساحيق قومية. لكن ذلك لم يمنع مصر أن تستمر في ترديد شعار “فلسطين قضية العرب الأولى”. وواصل فلسطينيون ترديد الشعار نفسه… واستعاد بعضهم فقط وعيهم بأن “فلسطين وطن للفلسطينيين”، قبل أن تكون عربية من حيث العواطف القومية. وكان على العرب وغيرهم من الأمم أن يقدموا واجب المساندة للفلسطينيين كما فعلوا مع الجزائريين، وليس الحلول محلهم.
واليوم، وقد تسابقت دول عربية، غنية وفقيرة على حد سواء، إلى استعطاف إسرائيل وطلب رضاها وحمايتها من تركيا، ومن إيران، ومن ثورات شعوبها المظلومة، كما تسابقت إلى تقديم فروض الطاعة لدولة إسرائيل الصهيونية؛ وقد انضم إليها فقهاء البلاط وكتبة خليجيين عرب، الذين لم يتوانوا أن يصرحوا أن عصر النبوة اضطهد اليهود وطردهم من ديارهم بجزيرة العرب. أما أرض فلسطين فأرض يهودية بنص القرآن، ويحق لليهود أن يستردوها كما استرد القشتاليون (الإسبان) أرض الأندلس ما بين أواخر القرن الخامس عشر والقرن السابع عشر. أضافوا في فتاويهم: أنه على شعوب العرب أن يطبقوا أوامر أولياء أمورهم وفقط.
أما شعار “فلسطين قضية العرب الأولى”، فنعتقد بأنه قام بما كان مطلوبا منه، وسيتم تخليد فلسطين في ذاكرة العرب كما تم تخليد الأندلس. خاصة أن وضع العرب اليوم يساعد أكثر على تحويل ساحة العرب السياسية والاقتصادية والثقافية إلى ملكية فارغة أو شاغرة. والكل يعرف أن الطبيعة لا تقبل الفراغ. ولا نعتقد بأن عودة الروح إلى جسم العرب وانبعاثهم من تحت رمادهم في ظل صراع مذاهبهم في التدين وفي النِحَل والأهواء، أمر قد يكون مستبعدا في المديين المنظور والمتوسط.
إذا كان شعار استعادة فلسطين عربيا يتسم بالغموض الواضح، فإن تسابق دول عربية للاحتماء بدولة الصهاينة يتسم بالوضوح الكامل. ومن بين هذا الوضوح تجند دول عربية مع أمريكا وإسرائيل لتصفية فلسطين، بعد أن فشلت “صفقة القرن”. أما شعار “فلسطين قضية العرب الأولى” فيمكن أن يساير تطورات منطقة الشرق الأوسط الجيو – سياسية، وفقا لرأي أهل العقد والحل في تلك الدول. ويمكن أن يبقى الشعار مركونا في أدراج جامعة العرب، مهيئا كوسيلة يمكن اللجوء إليها عند الضرورة، دون التأثير على توجيه علاقات الدول السياسية والاقتصادية مع من تريد. وفي السياق نفسه يطلب بعض فقهاء السلفية والكتبة الخليجيين من الفلسطينيين أن أن يتخلوا عن أرض الإسرائليين التاريخية، والامتثال لأوامر أولياء أمورهم.
نعتقد في خاتمة هذا المقال: أنّ من لا يتحرك أطوارا سيتحرك حتما نحو الأطمار.
*دبلوماسي مغربي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )