سنتناول النظام الأساسي الحالي بعيدا عن الشق القانوني بقضاياه المتعددة. كالعقوبات، والتعويضات، والمهام. التي تشكل موضوعا للحوار بين المتدخلين. ونقرؤه من زاوية السياسات العمومية التعليمية التي يقصد بها تدخل الدولة لحل مشاكل التعليم ببلادنا. راجين أن نسهم في توسيع رؤية التعديل الذي يتم الاشتغال عليه.
وهنا نلفت الانتباه لدور النظام الأساسي وتأثيره في تنزيل السياسات التعليمية وما يرافقها من برامج إصلاحية. إذ أن النظام الأساسي يعد صانعا فعليا للحاضنة المادية (البيئة المادية للتدريس و التعلم) والمعنوية ( غياب الاكتظاظ التحفيز.) لتنفيذ مختلف البرامج التعليمية. داخل المدرسة العمومية. وهنا نطرح السؤال المحوري التالي هل النظام الأساسي الحالي الخاص بموظفي التعليم. الذي صدر بتطبيقه المرسوم رقم 2.23.819 الصادر في الجريدة الرسمية عدد 7237. في 09/أكتوبر/ 2023م. سيساعد في التنزيل السليم للسياسات التعليمية وما يرافقها من برامج تعليمية إصلاحية؟ وللإجابة على هذا السؤال الإشكالي سنشتغل على المحاور التالية :
1/الاختيارات التي اشتغل عليها صانع النظام الأساسي
المفتاح الذي سندخل به إلى النظام الأساسي الحالي المجمد والذي سنكسر فيه جزءا من الجليد هو أن نعود للحظة اتخاذ القرار المنشئ لهذا النظام الأساسي. ونخضعها لنظرية اتخاذ القرار .معتمدين على” هربرت سايمن” الذي يوجهنا إلى أن صاحب القرار يكون أمام خيارين الأول مبني على المعطيات المادية الملموسة، والثاني مبني على القيم المعنوية الكائنة. والتي يجب أن تكون. وأن طبيعة توظيف هذين الخيارين هي التي تحدد جودة القرار كحال النظام الأساسي الحالي. ويكون الأنسب الجمع بينهما في إطار “القرار الرشيد “وهنا انتهى التأطير النظري لصديقنا “هربرت سايمن”. وسنستعير منه هذا التنظير ليسعفنا في قراءة نظامنا الأساسي.
فعلى مستوى الخيار الأول المرتبط بالمعطيات المادية فإن صانع النظام الأساسي اعتمد على المعطيات التي ساقتها التقارير التقييمية للموارد البشرية. من عدة متدخلين نورد على سبيل المثال لا الحصر التقرير الصادر عن المجلس الأعلى للحسابات سنة 2017م. الذي سرد مجموعة من المعطيات التي تصنف في خانة أعطاب الواقع التعليمي أهمها أن الترقية ترتبط بالأقدمية لا المرودية. وارتفاع ساعات غياب الأساتذة. الذي بلغ 207 آلاف و 463 يوم خلال السنة الدراسية -2020 /2021. مقابل 117 ألف و323 خلال السنة الدراسية 2016/2017. مسجلا أعلى المستويات في الابتدائي. متبوعا بالثانوي بسلكية الإعدادي ولتأهيلي. ويبدو أن صانع النظام الأساسي أراد التصدي لها. بالضبط والتشديد في العقوبات. التي تقدر كتلتها ب 16 عقوبة. مع الزيادة في المهام . وجعل ساعات العمل غير محددة بشكل ثابت. وجعل تحديدها يقع تحت وصاية الجهات الترابية التربوية الوصية. كلما رأت الحاجة ماسة لذلك.
أما على مستوى الخيار الثاني، فيتعلق بالمعطيات المعنوية التي تتعلق برصد القيم الكائنة والقيم التي يجب أن تكون. فعلى مستوى القيم الكائنة فإن صانع النظام الأساسي لم يضعها في حسبانه. وحجتنا في ذلك أنه لم يتطرق للقيم المعنوية التي يجب أن تكون أو تحل محلها. وهنا سنجازف بوجود الإحباط دون الحديث عن منسوبه لأن إصدار أرقام وأحكام القيمة يحتاج لدراسات علمية رصينة متخصصة في علم النفس المهني، وعلم تنظيم العمل. وهذا الرأي بوجود الإحباط له مؤشرات أهمها ارتفاع منسوب الغياب؛ والعزوف عن المشاركة في الحياة المدرسية؛ وعن حضور التكوينات؛ والميل للتدريس بالطريقة التلقينية. وهذا يحيلنا للتحفيز بنوعيه المادي والمعنوي كقيمة معنوية غائبة أو يجب أن تكون.
وبالمقارنة مع حضور الخيارين في النظام الأساسي نلاحظ أن صانعه أفرط في الأخذ بالمعطيات المادية. وخصص لها كتلة متضخمة من العقوبات وصلت إلى 16 عقوبة. مقابل كتلة صفرية من التحفيز. ففقد التوازن المنشود. مما يمكنننا معه القول أن النظام الأساسي الحالي معيب ويفتقر لسمات ” النظام الأساسي الرشيد” الذي يجمع في حكامة بين خيار المعطيات المادية وخيار المعطيات المعنوية القيمية.
2/عواقب النظام الأساسي الحالي على المدرسة العمومية
وكما سبق أن بينا أن النظام الأساسي الحالي يحمل نقائص جوهرية. جعلته ضمن الأنظمة الأساسية غير الرشيدة . مما جعله لا يسهم في حل المشاكل والأعطاب الكثيرة التي تعاني منها المدرسة العمومية. بل أضاف لها مشاكل جديدة بعد أن كرس القديمة منها. وسنورد بعضا من محددات التأثير السلبي :
ـ تكلفة فشل التنزيل السليم للبرامج التعليمية الإصلاحية: إن غياب التحفيز المادي و المعنوي للفئات المنفذين للبرامج التعليمية الإصلاحية و خاصة هيئة التدريس التي تم إقصاؤها واستبعادها. سيحولها من هيئة منفذين إلى هيئة مقاومين للتنفيذ. مما سيؤثر حتما على التنزيل السليم لأي برنامج إصلاحي. وقد بدأت هذه المقاومة مع سلسلة الإضرابات ووصلت مستويات مقلقة.
تكلفة هدر الزمن الدراسي: إن ضياع ملايين الساعات التعليمية والتعليمية. التي كانت ستخصص لتعليم المتعلمين والمتعلمات على المهارات وإكسابهم للكفايات. ومدهم بالقيم المواطنة. من شأنه أن يهدد السنة الدراسية. ويفوت مراحل تقيمية مهمة كالفروض والامتحانات الاشهادية.
ـ تكلفة هدر الطاقة النفسية للمتعلمين: إن توقفا اضطراريا مشحونا للتعلم سيخلف خسارة معنوية في صفوف المتعلمين والمتعلمات. لايعرف حجم تأثيرها إلا المتخصصون في علم النفس التربوي. والممارسون للتعليم والتربية. بحيث يطرح السؤال التالي هل نفسية المتعلم الذي غادر المدرسة مجبرا لأسابيع عديدة هي نفسها التي سيلتحق بها مرة أخرى؟ – بعد توقف الإضرابات – وهذا ما يتمناه الجميع – لأن المتعلم ليس جسدا له الحضور الفيزيائي في المقعد الدراسي، بل شخصية لها بعدها النفسي والذهني. الذي إن تعطل من الصعب جدا إعادة ترميميه ونحن في مشارف نهاية الدورة الأولى.
تكلفة هدر الزمن التنموي: تجند الدولة المغربية مختلف مقدراتها المادية والبشرية لتحقيق الصعود في سلم التنمية. بمختلف أبعادها . ومن المقدرات المعبأة لهذا الرهان التنموي نجد التعليم. الذي تم تعطيله زمنيا منذ صدوره بالجريدة الرسمية. وتعطل معه دور المدرسة العمومية في صناعة التنمية.
ـ تكلفة تهديد قيمة الثقة في المدرسة العمومية: لا يمكن التشكيك في قوة المدرسة العمومية. ونجاحها في تخريج أطر يشهد لها بالتفوق في ميادين مختلفة. وإلى اليوم لا زالت تجود بالنجاح. وكمثالين نسوقهما لأفضل مدرسة في العالم لسنة 2023 بنيودلهي التي فازت بها الأستاذة “فاطمة الزهراء المهدون”. ونورد كذلك تفوق الطلبة المغاربة ب 41 طالب من أصل 60 طالبا أجنبيا في مباراة ولوج المدرسة متعددة التقانات (البوليتكنيك) في باريس لسنة 2023. لكن هذا الإنجاز من الثقة يهدده تعطيل الدراسة بالمدارس العمومية. بارتفاع هجرة نسبة مهمة من المتعلمين والمتعلمات نحو المدارس الخاصة.
ـ تكلفة هدر الميزانية المالية للتعليم: تخصص الدولة ميزانيات ضخمة للتعليم تشهد عليها قوانين المالية السنوية. آخرها تخصيص 47 مليار درهم في قانون المالية 2023م. وذلك لتمويل مختلف البرامج الإصلاحية. إذ أن تعطيل الدراسة من شأنه يؤثر سلبا على جودة المخرجات التي ستمول من هذه الميزانية الضخمة.
3 مقترحات لصناعة النظام الأساسي المقبل
إن نظاما أساسيا بهذا الخلل يجب أن تعاد صياغته ليس في إطار الحوار الاجتماعي فقط. بل في إطار دوره في التنزيل للبرامج الإصلاحية المرافقة للسياسات التعليمية. ومن أهم هذه البرامج نذكر الخطة الإستراتيجية. لذلك نقدم بعض الاقتراحات التي تبدو لنا أنها صائبة:
ـ وضع نظام أساسي يليق بمهنة التربية والتعليم: حيث أن النظام الأساسي الحالي يحمل روح أنظمة أساسية للمقاولة الصناعية. وفاتت واضعه قاعدة غاية في الأهمية هي: أن طبيعة المهنة هي التي تحدد طبيعة النظام الأساسي. فمهنة التعليم مهنة تربوية ومعنوية بامتياز. بما تستهلكه من قيم كثيفة يتم تمريرها للمتعلمين. من خلال تواصل نفسي وذهني معقد يتم بناؤه بدقة عالية، بين طرفي العملية التعليمية التعلمية. فالمدرسة العمومية ليست هي المقاولة. وبناء عليه فالنظام الأساسي المقبل يجب أن يعدل ليراعي خصوصية مهنة التربية والتعليم. بنفس الدقة التي يلتزم بها الطبيب في اختيار فصيلة الدم، أو الدواء المناسب للمريض. أو المهندس المعماري في اختياره للتصميم الذي يناسب جودة التربة. فبناء المدرسة العمومية في شقها المعنوي له نفس الدقة أو أشد تعقيدا. تستدعي التريث والدقة في اختيار النظام الأساسي المناسب. يراعي الشق التربوي في احترام تام لربط المسؤولية بالمحاسبة.
ـ التنصيص على النهوض بالحياة المدرسية لأهميتها في بناء شخصية منفتحة للمتعلمين والمتعلمات. وإسنادها لأطر متخصصة في التنشيط الثقافي. وتكليف خريجي كليات علم النفس والتربية بمهام المواكبة النفسية والتتبع. ونفس الأمر بالنسبة للتوجيه. وذلك لتحقيق ليس فقط الانجاز. بل الوصول لمستوى الجودة العالية.
ـ التنصيص على تحسين ظروف التعليم والتعلم بالحد من الاكتظاظ ورقمنة الوسائط التعليمية التعلمية في جميع المواد الدراسية حيث تعتبر رقمنه الوسائط اختيارا تطوعيا فرديا من المدرسين.
ـ إقرار تحفيز مادي ومعنوي لمختلف المتدخلين في العملية التعليمية التعلمية . دون إقصاء لأي فئة خاصة هيئة التدريس التي تعد الفئة المتصلة اتصالا مباشرا ومتواصلا بالمتعلمين والمتعلمات. فمما لاشك فيه أن الدول المتقدمة تحرص على النهضة المستدامة للتعليم الناجح والنافع . إيمانا منها أن التعليم هو الضامن لامتلاك ناصية العلم و اقتصاد المعرفة. وقد حذت الدول السائرة في طريق النمو حذوها. وتجمع هذه التجارب سواء النامية أو السائرة في طريق النمو على أهمية العنصر البشري في نجاح التعليم وتطوره. والإجماع على أهمية العنصر البشري في النهوض بالتعليم ليس من باب المجاملات النضالية. بل بناء على حقيقة واقعية مؤداها أن التعليم يصنف ضمن المهن الإبداعية. وتعرف المهن الإبداعية أنها مهن توضع لها خطوط عريضة تحدد مواصفات المنتج ومحددات جودته. ويترك للعنصر البشري هامشا كبيرا من الإبداع، لتنزيل هذه الأهداف وتحقيقها. ولتطبيق شرط الإبداع يجب أن يكون المنتسب لهذه المهن حاضرا بمواهبه، وقدراته النفسية، والذهنية، وخبراته المهنية. ليتغلب على صعاب العملية التعليمية التعلمية. ويتكيف مع تحولاتها ليصل بها لمستويات عالية من الجودة. ومواجهة تحديات العولمة اليوم أصبحت تفرض على التعليم المغربي الانفتاح على صناعة التعليم. بالدخول لرهانات تعليمية عالمية في مقدمتها التعليم الأخضر والتعليم المستدام.
وختاما، يمكن القول أن النظام الأساسي لا يرتبط فقط بتعديل إجراءات أو سحب عقوبات. أو الرفع من التعويضات. بل يجب أن يستحضر تأهيل المدرسة العمومية لتقوم بأدوارها المحورية في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
*باحث في السياسات العمومية
تعليقات الزوار ( 0 )