محمد هنيد*
شهدت العاصمة الليبية طرابلس مؤخرا جريمة بشعة تمثلت في قصف صاروخي بطائرة مسيرة استهدف مدرسة الهضبة العسكرية في العاصمة. وشكل الحدث نقلة نوعية في المشهد الليبي والمشهد الإقليمي بشكل عام.
لا يعتمد هذا الإقرار على حجم الجريمة وبشاعتها فقط بل يستمد أسسه من التوقيت والسياق والأطراف المنخرطة في المشهد كاملا، وخاصة منها تداعيات نجاح المشروع الانقلابي في إسقاط العاصمة طرابلس وانعكاساته على كامل منطقة المغرب العربي المترنحة.
الجريمة التي كانت العاصمة الليبية مسرحا لها تأتي في سياق محلي وإقليمي حساس، وتتنزل ضمن سلسلة من التحولات الدولية التي تربط الوضع في ليبيا ببقية الأوضاع العربية في المشرق وكذلك في الجوار المغاربي. كما تمثل الساحة الليبية جزءا من نطاق الصراع الدولي الذي يتجلى أكثر وضوحا يوما بعد يوم عبر حضور الفواعل الدولية وتدخلها العسكري والسياسي والأمني المباشر في المسار الليبي.
الجريمة حجما وإطارا
وقعت “مجزرة الكلية العسكرية” كما سماها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مساء السبت 4 كانون ثاني (يناير) 2020 واستهدفت بصاروخ موجّه تجمعا لشباب من طلبة كلية الهضبة العسكرية بشكل مباشر كما أظهرت ذلك صور الفيديو التي انتشرت بعد الحادث. أدى الاعتداء إلى وفاة ثلاثين طالبا ثم ارتفع العدد بعد ذلك إلى 32 بعد وفاة طالبين متأثرين بجراحهما في المستشفيات التي نقلوا إليها. وهو العدد الذي يجعل من هذه العملية واحدة من أكثر العمليات دموية في مسار الصراع الدائر في ليبيا بين الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا في الغرب ومقرها العاصمة طرابلس وبين المشروع الانقلابي الذي يقوده الجنرال الانقلابي خليفة حفتر ومقره الشرق الليبي وتحديدا مدينة بنغازي.
لكن حجم الجريمة يتجاوز في الحقيقة عدد الضحايا من الشباب إذ يمثل قدرة المشروع الانقلابي على استهداف المقرات الرسمية وعدم مبالاته بالأرواح في تحد صريح للأعراف والمواثيق والاتفاقيات الدولية. وهو الأمر الذي يعكس تواطؤا مضمرا للمجموعة الدولية الراعية للحوار في ليبيا مع جرائم القوى الانقلابية.
نفذت الجريمة طائرة إماراتية بدون طيار صينية الصنع كانت الإمارات قد اشترتها من الصين كما أكدت ذلك عديد من المصادر المتقاطعة. وهو الأمر الذي يثبت حجم الدور الاماراتي في الحرب الدائرة في ليبيا وحجم الدعم الذي تقدمه هذه الدولة الخليجية الغنية لتمويل المشروع الانقلابي على الحكومة الشرعية هناك.
ليبيا.. فصل في ثورات الربيع
الفوضى المسلحة في ليبيا فصل من فصول ما بعد الربيع العربي وهي تعتبر فاتحة الموجة الثانية للربيع التي كانت بالأساس ثورة مسلحة فرض فيها نظام القذافي على شعب ليبيا استعمال السلاح عندما دفع إلى الشوارع والساحات والمدن بالمليشيات والكتائب المسلحة لإيقاف المدّ الثوري. لكن سقوط النظام وموت القذافي لم يكن في حقيقته إلا فاتحة الطور الأكثر دموية في صراع الإخوة على السلطة هناك. لم ينجح الليبيون في تفادي التصادم وفي رفع سقف القضية الوطنية الأبرز وهي إنقاذ البلاد من العسكرة ومن التقاتل المسلح الذي غلب على لغة المنطق والحوار السياسي.
كانت جولات الحوار الليبي والحكومات المتعاقبة تحمل في طياتها من التناقضات ما منع نجاح كل الوساطات والجهود التي كانت تسعى إلى تأمين مرحلة انتقالية مدنية في ليبيا والخروج من دوامة السلاح. كان هذا الفشل عنوان عجز النخب الليبية عن الحيلولة دون تدويل الصراع الدائر على أرضهم وهو الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للقوى العربية والدولية من أجل تحقيق مكاسب على حساب ثورة فبراير وعلى حساب القضية الليبية.
انقضّت قوى الإقليم بعد نجاح الانقلاب المصري على ليبيا وموّلت علنا المشروع الانقلابي بالمال والسلاح وحاولت بكل ما أوتيت من جهد تمكينه من العاصمة طرابلس بعد أن نجح في السيطرة على مدينة بنغازي عاصمة الشرق الليبي. صراع الكبار في المشهد الليبي ليس خافيا على أحد إذ أصبحت العمليات العسكرية معلنةً وصارت المهمات القتالية تمارس علنا من طرف قوى وجيوش ومليشيات أجنبية على أرض دولة مستقلة عضو في منظمة الأمم المتحدة.
هذا الوضع حوّل ليبيا إلى ساحة صراع وحرب بالوكالة بين أطراف دولية تعمل على ضمان مصالحها عبر فواعل من داخل المشهد الليبي. وهي الأطراف التي صارت تتحكم في كل العمليات العسكرية وكذلك في تطورات المسارات السياسية مع عجز الوسيط الدولي الأول والثاني عن الوصول إلى تقريب وجهات النظر بسبب انحيازهم المسكوت عنه ضد القوى التي تمثل ثورة فبراير ومشروع الدولة المدنية.
أما التدخل التركي فهو يمثل آخر أطوار المشهد بعد توقيع اتفاقية الدفاع المشتركة بين البلدين وهو ما قدّم دفعا جديدا للحكومة الشرعية في الغرب بشكل قد يحد من الهجمات الدامية والجرائم التي يرتكبها الانقلابيون. تركيا اليوم فاعل إقليمي أساسي في المنطقة المشرقية وكذا في حوض البحر الأبيض المتوسط بعد الدور الذي لعبته في سوريا وقبله في قطر عندما ساهمت في منع كل تهديد عسكري ضد الدوحة.
يطفو الدور التركي في الوقت الذي تبدو فيه المؤسسات العربية الرسمية وعلى رأسها جامعة الدول العربية عاجزة عن اتخاذ موقف يحقن الدماء ويفعّل العملية السياسية في ليبيا. وهو الوقت الذي تبدو فيه دول المغرب العربي هي الأخرى مكبّلة أمام أي تدخل يسمح بإيقاف النزيف الليبي الذي يتهددها في المقام الأول ويهدد حدودها وسلامة أراضيها.
لكن تطورات المشهد الجزائري وزيارة الرئيس التركي الأخيرة إلى تونس توحي بأن الموقف المغاربي من القضية الليبية في طور التحول بعد مجموع التصريحات الرسمية. هذه المعطيات التي تتزامن مع تقارب اقتصادي طاقي بين الأتراك وروسيا وضعف الموقف المقابل تسمح بالقول إن المناخ العام يتجه نحو منعطف كبير لن يكون في صالح المشروع الانقلابي بوكلائه وداعميه.
إن نزع فتيل الصراع في ليبيا يعتبر اليوم أولى أولويات الأمن القومي المغاربي والعربي لأن تمدد رقعة الفوضى لن يكون سهل الاحتواء فيما بعد، خاصة مع اعتبار هشاشة الوضع الأمني في تونس وبحساب حالة الاحتقان التي تعاني منها الجزائر على المستوى السياسي.
إن التعويل على الفعل العربي ممثلا في جامعة الدول العربية صار اليوم ضربا من العبث وإضاعة الوقت وهو ما يفرض على دول المغرب الكبير التدخل السريع ولو على المستوى الدبلوماسي من أجل نزع فتيل صراع إقليمي ستكون دول المغرب أول ضحاياه.
*استاذ بجامعة السوربون
تعليقات الزوار ( 0 )