Share
  • Link copied

ليالي الصيف في الجنوب الشرقي للمغرب.. “أحيدوس” وزغاريد حتى مطلع الفجر

إن غدا لعرس قريب

نحن في ذروة الصيف، لا صوت يعلو على صوت أحيدوس الذي يكسر هدوء ليالي الصيف في قرى الجنوب الشرقي، فبعد قيظ النهار اللافح، تنتشر الأخبار انتشار النار في التبن بأن حفل زفاف أو عرسا جماعيا سيقام في الدوار الفلاني، وحتى إن لم تنتشر أخباره، فالأهازيج تسمع من بعيد كأنها تنادي أن هلموا، لتلفي الشباب وهم يخططون قبل موعده بساعات وربما بأيام في كيفية التنقل لحضوره، شعارهم كل” الطرق يجب أن تؤدي إلى العرس”. يتنقلون إما مترجلين أو ممتطين دراجاتهم النارية والعادية، أو بكراء حافلة للنقل المزدوج، أما أوفرهم حظا فبسيارته، لا تهم الوسيلة فالغاية تبررها، والغاية هنا هي حضور العرس الذي هو متنفسهم الوحيد في هذا الثلث الخالي من الكون حيث لا منتزهات ولا مسابح ولا ملاعب قرب ولا بحر، وحيث الحرارة تحبس الأنفس في المنازل ولا تطلق سوى سراح الأفاعي والعقارب.

الزغاريد خير محمس ودليل إعجاب

تتهافت الجماهير من كل صوب وحدب على المكان الذي سيشهد توالي فرق أحيدوس القادمة من الدواوير المجاورة، لتبدأ المبارزة بالأشعار المعروفة ب”إزيلان”، فبين المدح والهجاء والغرام والفخر، تتعدد المواضيع وتتنوع، فتسمع الحناجر صادحة بأصوات جهورية تأسر الألباب وتجذب العاشقين لسمر ليلي هو حتى مطلع الفجر، بعدما تجتهد القرائح في إبداع القصائد وتجويدها إن أراد ناظموها نيل إعجاب الجمهور المكون من مختلف الأعمار، أطفال يغالبون النوم وكأنهم يصرون على أن يحملوا معهم ذكريات إلى المستقبل في زمن لم يعد للشباب ما يحكونه عن طفولتهم من حكايات ومغامرات؛ زمن الفايسبوك والفري فاير، شباب في الحلبة يعدون الدفوف ويسوون الصفوف قبل صافرة الانطلاقة، فالجمهور لا يقبل الصف الأعوج في أحيدوس، شيوخ يتذكرون ماضيهم في فلاش باك سريع، محاولين مقارنة أحيدوس جيلهم الذي لا يضاهيه حسبهم أحيدوس الجيل الحالي، في صراع أجيال شعاره “كل جيل بما لديهم مفتخرون”.

تعتبر زغاريد النساء خير معبر عن الإعجاب، إذ كلما ترددت وتوالت إلا ودل ذلك على أن الفرقة أتقنت وأبدعت، وكلما تعالت إلا وألهب ذلك حماس الفريق وزاد من انسجامه وقوته نتيجة وأداء، والعكس بالعكس، فإذا خفتت الزغاريد وقلت فهذا معناه أن الأداء متوسط، أما إذا انعدمت تماما فالعمل ضعيف جدا وعلى الفرقة إما بذل المزيد من الجهد في المحاولة الثانية إذا أتيحت لها بسبب ضيق الوقت لكثرة الفرق أو الانسحاب بشرف، قبل أن تتلقى عبارات الاستهجان والسخرية.

لا يقتصر دليل الإعجاب والرضى على الزغاريد فقط، بل إن عبارات من قبيل” تبارك الله عليكم”، “الله إعطيكم الصحة…التي يطلقها المتفرجون من الرجال يكون لها وقع نفسي كبير يزيد من حماسة المحاربين في ساحة أحيدوس، فتتوحد المشية وتصير كأنها أمواج بحر، وتتناغم الحناجر ويتكامل صوت الذكور الخشن مع صوت الإناث الناعم وتتمايل الجلالبيب الصيفية الذكورية و”أحروي”الأنثوي راسمة لوحة فنية يصعب التنازل عن متابعتها إلى آخر سكرة نوم.

من العناصر التي ينقط عليها الجمهور شكلا؛ الصوت ووحدة النقر على الدفوف والانسجام في المشية والهندام…أما مضمونا؛ فجِدة القصائد، أي أن لا تكون قصائد مستهلكة سبق أداؤها مرارا وتكرارا، فالشاعر أو رئيس الفرقة العبقري هو ذاك الذي ينجح في نظم قصيدة حول موضوع أو حدث وقع في عين المكان وفي تلك اللحظة بالذات أو يقرض الشعر في قضية طلب منه أحدهم الحديث عنها بغتة ليختبر قدراته الإبداعية أو ذاك الذي يرد بسرعة على من هجاه.

صراعات قبلية على الحلبة

تتم رقصات أحيدوس بشكل منظم وذلك بالتناوب بين مختلف الدواوير وفي احترام تام للأسبقية ولقرارات المشرف على التنظيم الذي يحرص على ان يلتزم” اللاعبون” بعادات وتقاليد المنطقة المحافظة وبارتداء البدلة الرسمية لأحيدوس وهي الجلباب أو العباءة، في حين تمنع السراويل القصيرة وسراويل الدجينز في هذا الطقس الاحتفالي المقدس.

في مجتمع قبلي كان الصراع هو قانونه الأساس إما بين العظام المكونة لنفس القبيلة أو بينها وبين قبيلة أخرى، فإن أحيدوس شكل مناسبة لتصريف هذه الصراعات بتبادل قصائد الهجو والصواريخ العابرة للأسماع والتي مهما بلغت حدتها إلا وتستقبل بنوع من المرح والمزاح، ومهما يكن من شنآن بين القبيلتين أو الدوارين، فنحن هنا للاحتفال وليس للقتال.

يتخذ هذا الصراع شكلا آخر، ففي بعض الأحيان تمتنع فتيات بلدة ما عن القيام لتشكيل صف الإناث والاستجابة لشباب دوار من الدواوير عند ولوج ساحة أحيدوس إما لصراع قديم أو لأنهم متهمون بسرقة فتيات الدوار المنظم العرس في مجاله الترابي، لإعجابهن بهم، إما لما يتسمون به من وسامة أو غنى أو مروءة وأخلاق أو فقط لأن الشباب من أبناء دوارهن لا يطربونهن، فلا يقبلن الزواج بغير شباب ذلك الدوار، لذلك لا غرابة أن نجد دواوير بأكملها تقريبا تنحدر الزوجات فيه من نفس دوار آخر.

يقف شباب ذلك الدوار منتظرين قيام الفتيات للرد عليهم لكن دون جدوى، بعدما أرغمهن أبناء جلدتهن سرا على عدم الاستجابة، إنها الغيرة وما تفعل، “فخيرنا لا يجب أن يفوز به غيرنا”، ما يدفع المغضوب عليهم إلى الانسحاب جارين معهم أذيال الخيبة ومنتظرين فرصة تنظيم زفاف في مجال سيادتهم لرد الصاع صاعين.

تحريض الفتيات سرا على عدم القيام لأحيدوس هي الطريقة الذكية لإجبار المنافسين عليهن للانسحاب، أما الطريقة الأخرى فهي التدخل لمنعهم وبشكل صريح من ولوج الحلبة، فييأسون في كل مرة، بل ويصبحون متيقنين أن لا مكان لهم في أعراس دوار أيت فلان، إلى درجة أنه لم يعد غريبا أن نجد دواويرا يستحيل أن تمارس أحيدوس في دوار آخر، لا بل أن تفكر في التنقل إليه لهذا الغرض، إلا إذا كان الهدف هو الاكتفاء بالمشاهدة فالكل مرحب به.

تراث يتوارثه الأحفاد عن الأجداد

لقد توارث أهل المنطقة هذه العادة، أي عادة التنقل إلى قرى مجاورة وأخرى بعيدة لمشاهدة أحيدوس أو الانخراط فيه من أجدادهم، فعمي يشو عمر(توفي رحمه الله سنة 2010 عن سن 90 سنة)، يحكي بشوق الشيخ إلى أيام صباه، كيف كان بنديره(الدف) لا يفارق مؤخرة درجته العادية من نوع”بالو” الذي كان موضة الدراجات العادية حينها، وكيف كان يسافر لساعات زاهدا في الأكل والشرب، فقط للمشاركة في أحيدوس كلما بلغه خبر زفاف في قرية ما.

لقد كانت الأعراس إذن وماتزال سواء الفردية منها أو الجماعية تدفع بعشاق السمر والكلام الموزون والإيقاع العذب إلى التنقل ليلا لحضور واحد من أقدم أنواع الرقص في العالم؛ أحيدوس بمفعوله السحري الذي لا يقاوم.

لنا يا رفاق أحيدوس غدا//سنأتي ولن نخلف الموعدا

نعود إلى الميدان أين تتوالى الفرق على ساحة المعركة وتتواصل الرقصات حتى الساعات الأولى من الفجر، ثم ينفض الجمع ولكل دوار هو موليه، ليتساقط الساهرون بعدها على أسطح المنازل كأنهم صرعى وما هم بصرعى بعد أن تحول ليلهم إلى نهار، في انتظار أخبار زفاف هناك أو عرس جماعي هنالك في الليلة المقبلة، حيث يتم الاتفاق مسبقا على مكان اللقاء للتوجه نحو ميدان أحيدوس وتمثيل الدوار خير تمثيل.

ينقضي فصل الصيف فيعود الطلبة إلى كلياتهم ومدارسهم والعمال إلى عملهم والمهاجرون إلى أماكن إقامتهم بانتظار صيف قادم وأعراس تلوح في الأفق بعدما شكلت رقصات أحيدوس لهذه السنة مناسبة لاختيار زوجات المستقبل ولو عن بعد، قبل التقدم رسميا لطلب أيديهن، ففي مجتمع منغلق لا فرص فيه للقاء وإبداء عبارات الإعجاب والهيام، يشكل أحيدوس مناسبة لتلاقي النظرات الخجولة وتبادل الرسائل المشفرة بقصائد الشعر التي تلتقطها المعنيات بالأمر بحس مرهف عندما تكون القصيدة منظومة خصيصا على إحداهن بالإشارة إلى لون لباسها أو غطاء رأسها أو حزامها الذي تتمنطق به أو حتى اسمها، فتعرف مسبقا أن ميمونها قد حل وأنها لا محالة مخطوبة عما قريب وزوجة في السنة المقبلة.

أحيدوس أبغض الحرام

اليوم أصبح الحال غير الحال، فهناك أصوات نشاز من الظلاميين وتجار الدين تنشر خلسة بين الأهالي فتاوى وأفكارا تفيد بتحريم هذا الفن الضارب في عمق القدم، والذي لا ضرر فيه لأحد، بل على العكس، هو فرصة للفرح والاحتفال والتعارف، فالجدير بالاهتمام أن الجميل في أعراس الجنوب الشرقي هو ذلك التناغم والتداخل بين أصوات الفقهاء بقراءتهم الفيلالية الرخمة وأهازيج أحيدوس المتعالية غير بعيد عن أولئك الفقهاء الذين لم يسبق لأحدهم أن حرم أحيدوس أو حتى تحدث عنه بسوء، وكيف يفعلون وهم يعلمون أن في أحيدوس تمرر مجموعة من القيم والدروس من خلال المواضيع المتناولة كوجوب طاعة الوالدين والالتزام بالدين والوحدة والتضامن ونبذ العنف والفتن والرذيلة…قبل أن يزحف مد غريب عن المنطقة يعتبر أحيدوس أبغض الحرام بمزاعم كاذبة من مثل أنه يسبب الاختلاط بين الذكور والإناث، في حين أنه لا وجود لاختلاط وخلط إلا في جماجم من هم على عقول أقفالها، بل إن من إناث بعض القبائل من يغطين وجوههن تماما أثناء مقابلتهن لصف الذكور كما هو حال قبيلة أيت خباش.

تحولات وانزلاقات.. كورونا.. ويستمر أحيدوس

حوادث معزولة ومظاهر مشينة لا تفسد لأحيدوس قضية، حيث غالبا ما تتم السيطرة عليها بسرعة، كالسكر والعنف والمشاجرات ورفض بعض المراهقين الالتزام بقواعد اللعبة والتحرش بالفتيات…تلكم هي بعض الانزلاقات والتحولات التي أصبحت تعرفها الأعراس الصيفية في الجنوب الشرقي، أما استقدام مجموعات موسيقية من المنطقة ومن خارجها لإحياء حفلات الزفاف باستعمال آلات عصرية ومكبرات الصوت، فلا يمنع من كون أحيدوس هو الأصل والباقي تقليد، زد على ذلك جائحة كورونا التي أثرت بشكل كبير خلال السنتين الأخيرتين على هذه الطقوس الاحتفالية ومظاهر الفرح التي ينتظرها الجميع بلهفة لعام كامل، غير أن ذلك لن يمنع من استمرار أحيدوس الذي هو ديوان أمازيغ الجنوب الشرقي وفرصتهم للالتقاء لينتشروا بعد ذلك في الأرض ويبتغون من فضل الله رزقا.

Share
  • Link copied
المقال التالي