Share
  • Link copied

بعد إتفاق الإمارات وإسرائيل.. لهذه الأسباب لن يطبع المغرب مع الكيان الصهيوني

بعد التطبيع الديبلوماسي الإماراتي الإسرائيلي، يروج كثيرون أن المغرب هو إحدى الدول التي قد تقبل قريبا على إبرام نفس العلاقة الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني المحتل، واضعين بذلك المملكة في نفس السلة مع الامارات وغيرها.

ما لايفهمه المعلقون أنهم عند مقاربة القرارات الخارجية المغربية، ينظرون إلى الدولة المغربية وكأنها كيان عمارات وناطحات سحاب مصطنعة حديثة بدون روح، وبدون نظر في عمق تراث المغرب التاريخي في إدارة التناقضات الدولية وفي تحصين مصالحه، بدون ارتماء مجاني مجازف في أحضان مزادات الربح المادي أو الأمني المحدود.

كثير من الإخوة في الشرق العربي لايفهمون جيدا المزاج المغربي ولا يدركون حقيقة الشخصية المغربية، الممزوجة تاريخيا بالأصل الأمازيغي والعربي والأندلسي، والتي تفكر وتتصرف انطلاقا من عدة مكونات صقلتها عبر التاريخ، ولايفهمون أيضا قوة رد فعل المجتمع المغربي المسيس إلى حد بعيد.

المغرب تدرب على الديبلوماسية الحديثة بقواعدها وأعرافها المتعارف عليها منذ قرون خلت، حينما ربط علاقات مع الدول الغربية الكبرى. المغرب تعرف على مفهوم القانون الدولي والاتفاقيات ومعنى احترام الجوار والالتزامات الدولية منذ عشرات السنين، وتعلم مفهوم وأسس إبرام السلام والتفاوض بشأنه عندما كان السلاطين المغاربة يواجهون أطماع الجيوش الغربية بشراسة. المغرب جرب التوسع الإنساني غير العنيف وفي نفس الوقت قاد وحيدا حروبا كثيرة ضد محاولات الغزو الغربي، معتمدا على قوة وذكاء أبناءه ولم يستنجد لا بالدولة العثمانية أو بأي قوى أخرى.

مفهوم الدولة في المغرب تطور وأصبح بعيدا عن منطق القبيلة والعشيرة. المغرب بنى دولة تدبر المؤسسات وتدير صراعاتها، معترفا بتعددية الاختلافات والأفكار السياسية والحزبية داخلها بشكل لم ترق إليه بعد دولة الإمارات.

وجود حركات متعددة ومتناقضة وصراعات سياسية داخلية ومحاولات إدارة لها، تميز المغرب أيضا عن دولة الإمارات. الفروق كثيرة والبون شاسع جدا بين المغرب والإمارات على مستوى مفهوم الدولة والمؤسسات والقانون والتمثيلية وحركية المجتمع وصراع الأفكار المفتوح وإدماج الإسلاميين في الحياة السياسية بدون مواجهات عنيفة، وعراقة الانتماء إلى الديبلوماسية العالمية والقانون الدولي والمؤسسات الدولية وغيرها من أسس وأركان الدولة الحديثة.

المغرب خبر دروس التاريخ و تعايش مع حركات مناوئة وأخرى صديقة عبر تاريخ نشأته وتطوره. تفاعل مع الزوايا واحتجاجتها السياسية، تعاطى مع بلاد السيبة وبلاد المخزن، تجنب الصدامات الخارجية والدولية وتفادى القوى الدولية والإقليمية، عاش الاستعمار والحجر الأجنبي، قارع مختلف الأفكار من تصوف وتشيع ومذاهب دينية وسياسية كثيرة، تجاذب مع الايديولوجيات اليمينية واليسارية وعاش تحت قرع كؤوس الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. تدرب نفسيا وفكريا وسياسيا مع حركات وأفكار الانفصال، في محطات تاريخية مهمة ومفصلية. كلها محطات قوت المغرب وشكلت عقله الباطن وكونت خزانه من الأعراف والتقاليد في تدبير العقليات والأزمات.

وعودة إلى ما اصطلح عليه بصفقة القرن، كان البلاغ الذي تبناه رئيس الحكومة في فبراير الماضي حول موقف المغرب تجاه الصفقة، ونشرته مؤسسة إعلامية رسمية وهي وكالة المغرب العربي للأنباء، لإعطائه الصبغة الرسمية على المستوى الداخلي والخارجي، كان بلاغا دقيقا ومصاغا بعناية فائقة. تصريح يحمل نفس التوجه والموقف حول القضية منذ استقلال المغرب الذي رسخه الملك الراحل الحسن الثاني، وتوافقت عليه الحركة الوطنية والأحزاب السياسية وأيضا المجتنع المغربي منذ ذلك التاريخ.

من أهم ما جاء فيه: “إن موقف الحكومة المغربية مما يعرف ب(صفقة القرن) ينطلق من ثوابت المملكة، ملكا وحكومة وشعبا، في تعاملها مع القضية الفلسطينية.، ودعم الشعب الفلسطيني لاسترداد حقوقه، وفي مقدمتها إنشاء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، ورفض كل محاولات تهويد القدس والاعتداء على الحرم القدسي والمسجد الأقصى”.

لم يكن البلاغ إنشاء لغويا، حيث أوجز في اللغة وابتدأ بالتأكيد على موقف المغرب “مما يعرف بصفقة القرن”، بمعنى أن الرسمي المغربي لم يعترف بها، وأن الموقف الرسمي المغربي الذي عبر عنه البلاغ لا يريد الخوض في تفاصيل الصفقة ولا يريد أن يناقش الموضوع، لأنها تحمل عيوب شكل أساسية سيوضحها رئيس البلاغ بعد هذه الجملة.

وضع البلاغ القضية الفلسطينية في نفس مستوى ثوابث المملكة، وهي الإسلام والنظام الملكي و الوحدة الترابية أي قضية الصحراء المغربية. معتبرا أن موقف المملكة ينطلق منها، وأنها بذلك تعد امتدادا للثوابت الوطنية، وأن هذا هو توجه الملك والحكومة والشعب، مما يؤكد على أن القضية من التوابث السياسية للمملكة.

أيضا عبر البلاغ عن موقف المملكة بشكل واضح ودقيق، على أن الدولة الفلسطينية التي يرجوها المغرب هي التي يسترجع فيها الفلسطينيون كل حقوقهم، وطبعا وبشكل ضمني حق العودة. وهي الدولة التي عاصمتها القدس الشريف. بذلك استعمل مصطلحات ذات دلالة قانونية دولية وأيضا ذات رمزية دينية مستقاة من محبرة ولغة إمارة المؤمنين، “القدس الشريف” “تهويد القدس”، “الحرم القدسي”، “المسجد الأقصى”، باعتبار إمارة المؤمنين معنية بالدفاع عن هذه الأماكن المقدسة بمقتضى عقد البيعة، وبمقتضى الأعراف التاريخية والالتزامات الدينية.

وفي إحدى كلماته الشهيرة أمام القادة العرب والمسلمين في لجنة القدس أواخر التسعينيات، علق الملك الراحل الحسن الثاني على قرارات رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتها، نفسه الحالي بنيامين نتنياهو، والتي كان مفادها التراجع عن حل الدولتين و ضرب اتفاقات أوسلو عرض الحائط، علق عليها الملك الراحل بكون نتنياهو يريد أن يؤسس مدرسة جديدة في القانون الدولي، أسماها الملك وقتها بمدرسة الفجور السياسي.

ولعل الذين اهتموا بخطب الملك الراحل حول القضية الفلسطينية وعلى رأسها قضية القدس، يلاحظون أنه كان مبنيا على توابث لم تتغير منذ اعتلائه العرش، وأنه اعتبرها من خلال خطبه وتصريحاته وعلاقاته الدولية سواء مع الزعماء الدوليين أو مع قادة المنطقة، أنها قضيته الأولى ولا يمكنه أن يفرط فيها مهما حدث.

ونحن نشاهد خطب الملك الراحل بخصوص القضية الفلسطينية و المنتشرة في شبكات التواصل الاجتماعي، ينتابنا شعور قوي من طريقة طرح إشكالاتها واختيار الألفاظ ونظام الجملة وطريقة العرض والإلقاء بنفس حاد وقوي، أنها كانت قضية الحسن الثاني في نفس مستوى قضية الصحراء المغربية.

بل إن مدير القضية بجميع تشعباتها الإقليمية والدولية كان هو الحسن الثاني، كان يميز جيدا ولا يخلط بين العلاقة مع اليهود والدين اليهودي وبين الصهيونية والكيان الإسرائيلي المحتل غير الملتزم بالقانون. فكان رجل توازن في الصراع يحسب له حساب غير عادي، نظرا لقدرته على اختراق اللوبيات الضاغطة في الملف، ونظرا لمقترحاته القوية لحلحلة هذا النزاع التاريخي في شقه المرتبط بالشرعية الدولية وصيانة القدس كعاصمة للديانات السماوية الثلاث.

وكان في خطبه أمام القادة العرب والمسلمين يطلب منهم شيئا واحدا كما هو ثابت من عدة وثائق سمعية بصرية، هو إعطاء المعونة للفلسطينيين والابتعاد عن جعل قضيتهم بابا للمساومة والغدر. كما لم يكن الملك يخشى تبعات اتصالاته الخارجية في الموضوع من أجل القضية. فقد استقبل شيمون بيريز في إفران سنة 1986، وقبله كان أجرى عدة اتصالات مع قادة إسرائيليين. لم يكن يخشى هذه اللقاءات والاتصالات لأنه كان يحمل صدق القضية وصدق نية حلها بما يرضي الفلسطينيين و الإسرائيليين، حتى أن هناك من قال عند وفاته أن القضية أصبحت يتيمة وفقدت مدبرا ماهرا صادقا وقويا.

ورغم كل الضغوطات في قضية الصحراء المغربية، وكل التهديدات والمخاطر المحدقة بالقضية الوطنية، لم يجعلها الحسن الثاني في ميزان التفاوض من أجل حل لقضية فلسطين. بل إنه كان دائما يقول أننا في صحرائنا يشرب الشاي من يشرب الشاي ويشرب الماء الزلال من يشرب الماء، وسنبقى في أرضنا إلى يوم يبعثون.

كان الملك الراحل يعي جيدا خطورة فتح الباب لدمج ملفات الصحراء وفلسطين، ولم يربط بينهما أبدا في أحلك أيام القضية الوطنية خصوصا في فترة الحديث عن الاستفتاء أو عن التقسيم أو مخطط الحكم الذاتي والاستفتاء في أواخر التسعينيات.

السبب العميق لهذا الارتباط الوثيق بين الملك الراحل والقضية الفلسطينية أكثر من أي قائد عربي أو مسلم وربما أكثر من بعض الفلسطينيين أنفسهم، هذا الارتباط الذي أثار الكثير من الأسئلة سببه العميق يكمن في مقومات إمارة المؤمنين التي تنبني عليها مشروعية النظام السياسي المغربي ككل.

الحسن الثاني كان مشبعا بالمدرسة التقليدية لتنزيل الدين بشكل معتدل في دعم مشروعية النظام السياسي من خلال مؤسسة إمارة المؤمنين. فالقدس هي أولى القبلتين وثالث الحرمين لأهم ركن في الإسلام. القدس هي أيضا ملاذ المؤمنين في الديانات السماوية، ولا يمكن أن يستقر الحكم بإسم إمارة المؤمنين إذا لم تتم صيانة المقدسات الإيمانية، التي تعتبر لبنات عضوية وثيقة من إمارة المؤمنين.

فلم يكن أبدا يسمح بأن تصبح السيادة ثابتة ومعترف بها دوليا وقانونا لإسرائيل على القدس، لأنه حينها ستفعل ما تشاء في قبلة المسلمين الأولى وفي معابد المسيحيين، وعندها لا يمكن لأحد أن يحتج على ذلك.

الملك محمد السادس سار على نهج والده الملك الراحل، واعتبر التزامات الملك الأب في قضية القدس، التزامات تطوق عنقه للتاريخ والأمانة، فلم يفسح المجال أبدا لأي كان بأن يتلاعب بقضية هي في صلبها قضية إمارة المؤمنين. ويأتي هذا أيضا من باب الحرص على مشاعر المغاربة، باعتبار قضية القدس هي قضية دينية وجدانية إلى جانب كونها قضية قانونية دولية، إنسانية حقوقية و سياسية تحارب احتلالا دمويا عنيفا قتل مئات الأطفال والنساء وشرد آلاف العائلات.

وفي عهد الملك محمد السادس نتذكر كيف اعتذر المغرب بتوجيهات ملكية في شهر مارس سنة 2016 عن احتضان القمة العربية 27 بسبب عدم توفر الظروف الموضوعية لعقد قمة عربية ناجحة وقادرة على اتخاذ قرارات في مستوى ما يقتضيه الوضع العربي الراهن، حسب بلاغ الخارجية المغربية حينها.

كما نتذكر في القمة الخليجية المغربية سنة 2016 عندما تحدث الملك محمد السادس عن التفرقة وقال ” ولسنا هنا لنحاسب بعضنا على اختياراتنا السياسية والاقتصادية.
غير أن هناك تحالفات جديدة، قد تؤدي إلى التفرقة، وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة. وهي في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة، وخلق فوضى جديدة، لن تستثني أي بلد. وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة، بل وعلى الوضع العالمي”.
وقال أيضا “إن هذه القمة تأتي في ظروف صعبة. فالمنطقة العربية تعيش على وقع محاولات تغيير الأنظمة و تقسيم الدول، كما هو الشأن في سوريا والعراق وليبيا. مع ما يواكب ذلك من قتل وتشريد وتهجير لأبناء الوطن العربي”.

ولا يخفى على أي ملاحظ أن الإمارات العربية المتحدة حبا للزعامة تمددت كثيرا سياسيا وعسكريا في الشؤون العربية الداخلية بدون طرق الأبواب أو استئذان وبدون حياء أمام دول عريقة عميقة التجارب، آخرها في ليبيا بوابة الاتحاد المغاربي وذلك بعد اليمن، وزجت بدول عربية في معاركها. ولعل جميع الأهداف التي راهنت عليها خاب مسعاها بسبب غياب بعد النظر وغياب القراءة الجيدة لمزاج الشعوب ولموازين القوى، مما شكل تهديدا حقيقيا لها ولاستمرارها كدولة موحدة، وحان وقت التراجع واختيار التحالف الذي قد يضمن أمنها وأمن نظامها وهو التحالف مع إسرائيل حسب نظرتها.

السلام ليس اتفاقية أو معاهدة موقعة من قبل أطراف معينة، وإلا لكان السلام قد حل من زمن بعيد بين إسرائيل مع من سبقوا الامارات في العلاقات معها وهم مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، ولم يتحقق السلام بعد في المنطقة، بل كان هنا نقض للمواثيق من قبل الاحتلال الصهيوني. السلام مسلسل بناء طويل، ملموس يكشف النوايا ويبني الثقة، السلام ثقافة تتجسد على الأرض وليس توقيعات على الأوراق.

وما عهدناه في الملك محمد السادس أنه لا ينقض اتفاقا دوليا، ولا يغدر طرفا ضعيفا، ولا يناصر عدوا مغتصبا، ولا يتدخل في شؤون الدول والشعوب العربية سياسيا. كما أن تدبيره لأزمة وباء كورونا بينت حرصه على استقلالية القرار المغربي في التدبير والاعتماد على الذات وإمكاناتها دون اللجوء إلى طلب أي مساعدات دولية كيفما كان نوعها.

وقد أكد هذه الاستقلالية بشكل صريح في كلمته أمام القمة الخليجية المغربية في أبريل 2016 حيث جاء فيها :”فالمغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلد. وسيظل وفيا بالتزاماته تجاه شركائه، الذين لا ينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهم”.

بالنظر إلى كل هذه العناصر الموضوعية وبالرغم من كل الضغوط والابتزازات التي قد تتعرض لها المملكة، فإنه من غير المتوقع بتاتا أن ينقاد المغرب لوجهة الامارات التي شقت الصف العربي ونقضت إجماع الأمة، حول قضية أقل ما يمكن القول عنها أنها قضية احتلال وكفى.

Share
  • Link copied
المقال التالي