Share
  • Link copied

لماذا فشل الإضراب العام؟ إعلان فشل المجتمع أمام الدولة

دعت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل إلى إضراب عام يوم 5 فبراير الماضي، وتبعتها مجموعة من المركزيات النقابية أو بعض النقابات القطاعية للدعوة إلى إضراب عام في ذات اليوم، أما الاتحاد المغربي للشغل، وهو النقابة الأقدم في المغرب، لا يمكنه سيكولوجيا أن يدعو إلى إضراب في نفس اليوم الذي دعا إليه الآخرون، فعمل على الدعوة إلى إضراب عام في يومين اثنين، حيث عوّم يوم 5 فبراير مع تاليه 6 فبراير، ودعا إلى إضراب يومين متتاليين.

وبعد هذه المحطة “السياسية”، أعلنت بعض المنظمات النقابية “نجاح” الإضراب العام بنسبة تفوق %80، فيما أنزلت الحكومة النتيجة إلى أدنى نسبة عرفها إضراب في التاريخ البشري منذ خلق الله آدم إلى اليوم، وصرحت بأن النسبة في القطاع الخاص لم تتجاوز %1.4، وفي القطاع العام لم تتجاوز %32، فما هي النسب الأقرب إلى الصواب؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجدر بنا أن نعرج على الإضراب العام ذاته، عن ماهيته، وقطاعاته، وأثره.

غير خاف على كل متتبع للشأن العام المحلي والعالمي أن الإضراب العام يختلف عن الإضراب القطاعي، لأن الإضراب العام له طبيعة سياسية أكثر منها طبيعة مطلبية، لذا نجده في التاريخ النقابي قليلا ونادرا من حيث الممارسة إذا قورن مع الإضرابات القطاعية المطلبية، (عرف المغرب إضرابات عامة في: 20 يونيو 1981، 14 دجنبر 1990، 5 يونيو 1996، 27 أكتوبر 1997، 25 أبريل 2000، هذ الإضراب الأخير ألغي بسبب اتفاق 19 محرم الذي سبق موعد الإضراب بيومين).

والإضراب العام يشمل جميع قطاعات المجتمع، إضافة إلى القطاع العام، فإنه يشمل القطاع شبه العمومي، والقطاع الخاص بكل فروعه وأنواعه، حيث يشمل مجال النقل بأنواعه (حافلات النقل الوطني، حافلات النقل الحضري، الطاكسيات بنوعيها) والمحلات التجارية (الأسواق الكبرى ـ محلات البقالة ـ المقاهي ـ المطاعم) إضافة إلى المطارات والموانئ وأسواق الخضر بالجملة والمدراس الخصوصية والمصحات والمستشفيات الخاصة…

ونظرا للتغطية الشاملة للإضراب العام أفقيا وعموديا، فإن نجاحه بنسبة أقل من %80 ينتج عنها شبه شلل في المجتمع، ناهيك عن نسبة %80 التي سوقتها التنظيمات النقابية، والمراقب البسيط لا يتردد في تكذيب ما ادعته تلك التنظيمات النقابية، وفي المقابل، فإنه لا يملك المعلومات لتصديق ما ادعته الحكومة، لكنه لا يتردد في الحكم بأن نسبتها وإن لم تكن صحيحة، فهي أقرب إلى الصحة، خصوصا وأن بعض القطاعات عرفت حضورا بنسبة %100 أو ما يدانيها، كالمصحات والصيدليات والنقل الحضري والمدارس الخصوصية ومحلات البقالة والمقاهي والمطاعم … ولو تجول كوادر النقابات في الأحياء القريبة من مقراتهم كدرب عمر مثلا، لأدركوا بالملموس أنهم يروجون الأكاذيب ويخادعون المجتمع، وما يخادعون إلا أنفسهم.

فلماذا هذا الفشل؟

قد يعود هذا الفشل إلى أسباب متعددة، منها:

1 ــ هناك تدهور عالمي في العمل السياسي والعمل النقابي، وهذا ليس حالة مغربية فحسب.

2 ــ ضجر الإنسانية من التنظيمات الكلاسيكية وفقدان ثقتها فيها، لذلك صارت تبحث عن أدبيات وفعاليات بديلة عن الفعاليات الكلاسيكية، مثل السترات الصفر في فرنسا، بوديموس في إسبانيا، الربيع العربي في منطقتنا، والمغرب لم يشذ عن هذه القاعدة من خلال حركة 20 فبراير التي تجاوزت الإطارات الحزبية والنقابية وكان لها أبلغ الأثر في المجتمع، حيث فرضت على أعلى سلطة في البلاد تغيير الدستور، وهذا ما لم تكن تحلم به التنظيمات الكلاسيكية مجتمعة.

3 ــ هذه المتغيرات العالمية، يجب ألا تنسينا واقعا وطنيا كان له الأثر البالغ في تدهور العمل النقابي، وقد نرصده من خلال النماذج الآتية:

أ ــ عرفت التنظيمات النقابية فسادا داخليا، وانتشر الريع بين “مناضليها”، وصار العمال والأجراء يعانون من فساد هذه الكوادر أكثر مما يعانون من فساد الإدارة أو تغول الحكومة، وعلى سبيل المثال، يمكن رصد الفساد الذي يُتهم به كوادر الاتحاد المغربي للشغل في صناديق التعاضدية أو الأعمال الاجتماعية مثل نموذج قيادي الاتحاد المغربي للشغل محمد عبد الرزاق في لجنة الأعمال الاجتماعية للماء والكهرباء وغيرها من النماذج التي نفرت العمال والأجراء من العمل النقابي برمته.

ب ــ تحالف النقابات وكوادرها مع الدولة (المخزن)، وصارت عميلةً له عاملةً على تحقيق مطالبه أكثر من مطالب الأجراء، ويكفي أن نذكر ببدايات الانحراف النقابي، حيث دعت الحركة النقابية إلى إضراب عام في الوظيفة العمومية يوم 19 يونيو 1961، لكنها فوجئت بإلغائه ببلاغ مشترك موقع من محمد عبد الرزاق القيادي النقابي في الاتحاد المغربي للشغل وأحمد رضا كديرة، واستمر التحالف النقابي السلطوي إلى أن توج بحضور وزير الداخلية إدريس البصري لمؤتمر الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، وقد عرف هذا الحضور سخطا في صفوف أقلية من الكنفدراليين (لأن الحضور في المؤتمر خضع لترتيبات أولية لم تسمح بالحضور إلا للموالين للخط الرسمي للزعيم).

ج ــ ظاهرة الخلود في الزعامة، فالمحجوب بن الصديق زعيم خالد للنقابة، تربع على عرشها أزيد من خمسين سنة، ومحمد عبد الرزاق تربع على عرش كرسي نائب القائد الأول زهاء نصف قرن، حتى صار بمثابة وزير داخلية المحجوب بن الصديق مكلفا بالعمليات السرية والمشبوهة، والميلودي مخارق ما زال قائدا للنقابة رغم أنه يبلغ من العمر 75 سنة، ونوبير الأموي الذي ترأس الكنفدرالية مدة تناهز أربعة عقود، وعبد الرزاق أفيلال الذي جاوز أربعة عقود على رأس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب …

د ــ ظاهرة المزايدة النقابية، فالاتحاد المغربي للشغل الذي لم ينخرط في الإضرابات العامة المشار إليها أعلاه، نجده ينخرط بقوة في الإضراب العام ليوم 24 فبراير 2016، ولم يكن انخراطه إذ ذاك انخراطا نضاليا، بقدر ما كان إضرابا سياسويا، حيث كان الاتحاد منخرطا في حركة التشويش على حكومة عبد الإله بنكيران. كما أن الإضراب العام الحالي الذي دعت إليه الكنفدرالية كان منحصرا في يوم واحد، هو يوم 5 فبراير، لكن الاتحاد المغربي للشغل انخرط فيه وزاد عليه يوما آخر في سابقة من نوعها، حيث لم يسبق لأي نقابة أن دعت إلى إضراب عام ليومين متتاليين، ومعلوم أن إنجاح إضراب عام ليوم واحد صعب جدا، فما بالك بيومين، لذلك، فإن هذه الزيادة ليست إلا مزايدة نقابوية وليست فعلا نضاليا.

هـ ــ ظاهرة طبخ الانتخابات العمالية، ففي كثير من مواقع الشغل [وليس جميعها]، خصوصا في القطاع الخاص، يتم تأميم الوحدة الإنتاجية لمنظمة نقابية بعينها، ويقع التوافق بين رب العمل و”ممثل” العمال الذي يختاره هو بتوافق مع النقابة، ويطبخون العملية الانتخابية قبل تاريخ التصويت وبدون تصويت، ويتم توقيع محضر النتائج قبل يوم الاقتراع بدون اقتراع، وهذا ما يعطينا نتيجة مرتفعة في مناديب العمال لبعض النقابات التي تسيطر تاريخيا على القطاع الخاص.
هذا الواقع السلبي والبئيس، وهذه الممارسات غير الأخلاقية وغير النضالية، كانت مسيئة إلى العمل النقابي إساءة ذاتية، وكانت مُنفرة من الانخراط فيه والانتصار له، مما أدى إلى تدهور مريع في نسبة الانتماء إلى النقابات، ويكفي التعرف على المؤشر الرقمي لندرك التدهور النقابي، ففي 1957 كان عدد المنتمين إلى الاتحاد المغربي للشغل 600000 عضو، وفي 1959 كان عدد الأعضاء 650000 وفي 1960 صار عددهم 600000 عضوا، إلى أن صار عددهم 200000 بين 1970 و1975، واستمر الانحدار والانهيار إلى يومنا هذا.

هذا الواقع كفيل بأن يفسر لنا سبب فشل الإضراب العام، وبه يمكن للمهتمين أن يعلنوا هزيمة المجتمع أمام الدولة، لأن المجتمع له ممثلوه وهيئاته الوسيطة، مثل الأحزاب والنقابات، وإذا فشلت في بلورة أفكارها إلى مواقف نضالية ناجحة، فإن اللائق بقادتها أن يقدموا مراجعات جذرية، منها تقديم استقالات جماعية (وهذا مستحيل)، ومراجعة المواقف والمواقع (وهذا مستحيل أيضا)، ومراجعة الأدبيات والبرامج (وهذا مستحيل).

نسجل مع هذه الاستحالات، أن الدولة لها ما يثبت “نجاحـ”ها و”نجاح” أجندتها، إذ تمتاز بالصبر الاستراتيجي وطول النفس والقدرة على الاختراق من الداخل وشراء الذمم (الترغيب)، كما لها العنف المشروع من خلال الأجهزة الأمنية والقضائية وحتى العسكرية (الترهيب). هذا ما جعل الدولة تقترح في أول دستور وضع قانون تنظيمي للإضراب، وهو ما لم تفلح فيه طيلة عقود بفعل قوة العمل النقابي، لكنها بعد صبر طويل، وبعد إنهاك الفاعل النقابي واختراقه وفشله وإفشاله، وصلت إلى مبتغاها سنة 2025 بعد أن سطرته في أول دستور سنة 1962.

إننا اليوم أمام (فشل) المجتمع أمام الدولة، ولسنا بصدد (موت) المجتمع أمام الدولة، لذا، فإنه قادر على المبادرة في أي لحظة مواتية، خصوصا مع المتغيرات الوطنية والدولية، الوطنية مثل الغلاء وتغول الباطرونا واستيلاؤها على الحكم من خلال الجمع بين السلطة والثروة، والدولية مع الهزائم التي تلقتها وستتلقاها الصهيونية مما سيكون له ارتدادات عميقة على كل المرتبطين بالصهيونية وقوى الاستكبار العالمي، ونهضة الشعوب قد تتحقق بطفرات وتراكم، كما وقع في إيران أو تونس أو مصر …، حيث انكشف الواقع وتبين أن “نجاح” الدولة في تلك الأقطار لم يكن إلا نجاحا فوقيا لا قاعدة له.

Share
  • Link copied
المقال التالي