لماذا سقط “الإسلاميون” في امتحان السياسة؟ (السياسة هنا هي تحمل مسؤولية إدارة وتسيير الشأن العام وليس مطلق السياسة والإسلاميون هنا هم فقط اولئك الذين انخرطوا في التجربة وليس مطلق الإسلاميين) ولماذا كان سقوطهم هذا مؤلما و قاسيا؟ وهل كان منتظرا منهم أن لا يسقطوا ولا يرسبوا؟ ألم تكن خسارتهم رهاناتهم ورهان الشعوب عليهم متوقعة؟
لقد آتى على الشعوب حين من الدهر، عولت فيه على “الإسلاميين” ، وتطلعت من خلالهم إلى مستقبل يُحققون فيه بعض آمالهم وأحلامهم، وذلك بعد أن سُدّت في وجوههم كل الأبواب و انقطعت حبال رجائهم إلا منهم، بعد الله سبحانه، ولكنهم بمجرد أن صاروا إلى ما صاروا إليه ، وتحملوا المسؤولية حتى أخلفوا الموعد وخانوا الوعود.
ولقد آتى على الشعب حين من الدهر، كان يعتقد فيه أن هؤلاء “الإسلاميين” إذا تقلدوا فيه تلك المسؤولية، سيكون بإمكانه ـ على الأقل ـ ان يصرخ في وجوههم أن يتقوا الله ويذكرهم به، ولكنهم بمجرد أن انبسطت الدنيا لهم و “ضحكت” في وجوههم، تنكروا لكل شيء وتبرؤا. فلماذا كان ذلك كذلك؟ ولماذا لم تنفعهم التربية التي كانوا يدعونها؟ ولماذا لم يمنعهم وازع الدين الذي يزعمونه؟ أين تكمن المشكلة ؟ وأين يكمن السبب؟
أعتقد أن طرح هذا السؤال ليس مشروعا فحسب، بل إنه أكثر من مشروع، إنه ضروري، والتعرض له بالنقاش ليس ضروريا فقط، ولكنه أكثر من ضروري ، لأنه يرتبط بشعار كبير وعريض، هو شعار الإسلام.
إن الحديث هنا عن النوايا حديث محفوف بالمخاطر، إذ يعتبر انتهاكا لواحدة مما اختص الله به، لأنه وحده يعلم حقيقة ما تخفي الصدور. ولكن الوقائع على الأرض تسمح بذلك وتأذن، إذ هي تعمل على تعرية تلك النوايا وتفضحها، آية ذلك أن هؤلاء “الإسلاميين” لو كانت رغبتهم في الإصلاح أكيدة، وإيمانهم بهذا الإصلاح قويا لبان وظهر، ولو كانوا يؤمنون بشعارات الإسلام ومبادئه ـ التي زعموا أنهم يقومون لأجلها ويكافحون في سبيلها ـ لأمكنهم تحقيق بعضها على الأقل.
لنتذكر أنهم إنما وصلوا إلى ما وصلوا إليه، بفعل تضحيات حركة الاحتجاجات، التي وقفت قياداتهم ضدها، و أنهم إنما سمح لهم النظام بتحمل تلك المسؤولية مكرها و مضطرا، وأنه لولا تلك الحركة الاحتجاجية المباركة لما حلموا، مجرد حلم، أن يتراس أحد منهم الحكومة، أو ان تكون لجمع منهم حقائب وزارية معينة، وهذا ما كان يفرض عليهم أن تكون تعاقداتهم و اتفاقاتهم مع الشعب، وليس مع المخزن، و أن يراعي مصالح الشعب و تطلعاته، في محاربة الريع والفساد و توزيع الثروة، التوزيع العادل، وإنقاذ الشعب من هؤلاء الذين من فرط خوفهم منهم أسموهم “العفاريت والتماسيح” وليس التحالف مع المخزن وإجهاض آمال الشعب في فرض إرادته و رغبته .
فلو صلحت نواياهم وصحت عزائمهم، و أرادوا احترام إرادة الشعب، وليس التآمر عليه لخيروا المخزن، وقد كان في وضع لا يحسد عليه، بين أن يُمضوا عزيمة هذا الشعب أو ان يستقيلوا، ويتركوه في مواجهة الاحتجاجات، ولئن كانوا انسحبوا في ذلك الوقت لكان خيرا لهم و للإسلام ودعايته، و لكانوا حافظوا على قوتهم وطهارتهم، و أبقوا على “قدسية” شعار الإسلام، وحالوا دون المساس به، ولكنهم آثروا مصالحهم الضيقة على مصالح الشعب، و قالوا بينهم وبين انفسهم، ـ بل قالها كبيرهم في العلن وأمام جمع من أزلامه ومريديه ـ أن هذا اليوم هو يومهم، و أن استغلاله و استغلال فرصته من أوجب الواجبات التي لا يجوز تأجيلها أو التضحية بها، فراحوا يفعلون ما فعل غيرهم، ويتآمرون على الشعب كما تآمر من كان قبلهم.
و قد غامروا بكل ماضيهم و” جهادهم” المزعوم في سبيل إصابة هذه الدنيا، حتى لو قال القائل أن شعارات الإسلام التي شرُفُوا بحملها، زمنا، لم تكن إلا مطية للوصول إلى السلطة والحصول على الغنائم، لم يعدُ الصواب. وقد كان ذلك كذلك بالفعل، وإلا فقد كان منتظرا أن يرسبوا في امتحانهم و أن يسقطوا في اختبارهم. فالعادة أن الثورات تكون مثالية وناقمة على الواقع ومتطلعة إلى تغييره، فإذا تم لها و حلت محل من كان قبلها من الانظمة والحكومات حافظت على نفس آثامها، بل زادت، وكذلك يفعلون ، فإذا كانت الحال مع الثورات هكذا، فما بالك بحزب كل همه التفاوض مع النظام القائم ونوال بعض رضاه وأعطياته. وقد كان النبي “ص” يخبر أنه لا يخشى على أمته الفقر، و إنما يخشى عليها الغنى و أن تبسط لها الدنيا.
لا شك أن فشلهم هذا، و رسوبهم في كل هذه الاختبارات، لا يعني إلا إياهم، أي لا يعني الإسلام، ولا يجعل كون الإسلام حلا، محل جدل أو نقاش.
لقد كان الحديث عن النوايا ضروريا، لان فشل هؤلاء لم يكن بالضرورة موضوعيا فحسب، ولكنه كان نتيجة عوائق ذاتية تحول دون نجاحهم، فهم كانوا يدركون تماما انهم لا يملكون لأنفسهم ـ هم ـ ضرا ولا نفعا فضلا عن أن يملكوهما لغيرهم ولا طاقة لهم على الفساد ولا قبل لهم بأهله، ومع ذلك قبلوا بان يقوموا بالأدوار التي أوكلت لهم، ونيتهم في ذلك أن تتحسن أوضاعهم وأن يتعالوا على عامة الناس بما يراكمونه من الثروة والمال. والآن نريد أن نشير إلى نقطة مهمة، بل غاية في الأهمية، مضمونها أن الاسلاميين، الذين قبلوا المشاركة في الحكم و تقلدوا فيه المسؤولية، قد انقلبوا على واحد من أهم مبادئ التصور الإسلامي، الذي أسست له الحركة الإسلامية إبانه نهوضها، وانقلبوا على واحد من أجل القضايا النظرية، التي تأسس عليها الخطاب الدعوي الإسلامي، فقد كان المنظرون الاوائل للحركة الإسلامية يكتبون، و يؤكدون على، أن الإسلام لا يمكنه أن يتعايش مع “الجاهلية” ولا يقبل أن يتعايش مع الباطل، و انه جاء ليقضي عليهما كليهما و ليمحوهما من على وجه الارض، حتى تكون هذه الاخيرة خالصة له، و ان مسيرته هي مسيرته نحو تدميرهما و تحطيمهما، و أن تاريخه هو تاريخ محاربته لهما، بل إن الإسلام لا يقبل حتى أنصاف الحلول مع “الجاهلية” ومع الباطل، ولا يمكن أن يلتقي معهما أبدا. و الحق أن هذه النقطة بالذات، هي التي يمكنها أن تفسر لنا لماذا كان هذا الفشل ضخما وهائلا. ا
لقد كان الدعاة الأوائل واعين، تمام الوعي، أن الإسلام لا يمكن أن يكون حلا لجملة مشاكل العرب والمسلمين، إلا إذا محا و قضى على كل محاولة لاستيراد منهج آخر غير الإسلام ، وأن أي محاولة لفعل ذلك: اي الدفع بالإسلام نحو مشاركة الباطل والجاهلية في الحكم لن تعود بأية فائدة غير أن تشوه الإسلام وتفشل مشروعه. وينبغي أن نشير هنا أن الإسلام وحده لا يحل المشكلة ولا يحقق المراد . الإسلام الذي يكون حلا هو الإسلام الذي يحمله رجال يقدرون على الارتقاء إلى مستواه، وليس السعي إلى إنزاله ليلائم الاهواء والمصالح.
لا نستطيع أن نعتبر انقلاب الإسلاميين، الذين انخرطوا في “التجربة ” السياسية، على هذا التصور العظيم اجتهادا منهم، وتطورا لفهمهم وفقههم كما يدعون، فهم لا ينطلقون من الشرع و لا يصدرون عنه اثناء قيامهم بهذا “الاجتهاد” و إنما يصدرون عن الاهواء والمصالح، ويدورون مع هذه الأهواء والمصالح حيث دارت، وهم لا يعجزون عن تبرير مواقفهم و مواقعهم انطلاقا من الشرع أبدا، فذلك في مكنتهم دائما.
و أحسب أن التنظيمات الإسلامية، التي لم تتمرغ في هذا الوحل، ولم تغرق في مستنقعه، قد عصمها الله وحماها. و أحسب أيضا أن جماعة “الإخوان” في أرض الكنانة، كانت محظوظة إذ تم الانقلاب عليها، وهي لازالت في بدايتها، تقدم الوعود وتشحذ الهمم، وبالتالي حافظت على “طهارتها” و”براءتها”، وإلا فإن مصيرها ما كان ليختلف عن مصائر غيرها.
تعليقات الزوار ( 0 )