سيكون من الإجحاف أن تُنكر صولات البحارة الجزائريين وجولاتهم، ولكن من بوسعه الحديث عن الأمجاد الجزائرية في البحر المتوسط، بمعزل عن إسهامات الأتراك العثمانيين فيها، أو تحديدا عن سيرة شخصيتين بارزتين هما بربروس وعروج؟ وقد يكون الأولى أن نعرف قبل العودة إلى الماضي وجهة الجزائر اليوم، فإلى أين تصوّب أنظارها: هل إلى الداخل أم إلى الخارج؟ وهل إلى الشمال أم الجنوب؟ وإلى الشرق أم الغرب؟ في بلد شاسع وممتد يواجه تحديات وتهديدات شتى، يبدو الحسم بترجيح خيار من تلك الخيارات فارقا ومصيريا.
غير أن تلك القضية المركزية لن تحجب سؤال الساعة وهو، لماذا اختارت الجزائر في مثل هذا الوقت بالذات، أي مع احتدام الصراع في شرق المتوسط، على ترسيم الحدود، وعلى السيادة على النفط والغاز، وأن تعلن عن خططها وطموحاتها المتوسطية؟ وهل يمكن أن يكون هناك رابط بين الأمرين؟ ثم أي رسالة رغبت بإيصالها من وراء ذلك ولمن؟
في خروجها من سنوات انكفائها كانت ليبيا بوابتها المثالية لتحقيق هدفها، ولعل الكلمة التي ترددت على ألسن الكثيرين، وأعطت الانطباع القوي بأنها قطعت خطوة كبرى على طريق الظهور الإقليمي الجديد، وجاءت أياما قليلة بعد حضورالرئيس الجزائري مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية، في ظل غياب ملحوظ لنظيريه المغربي والتونسي، هي تلك التي وردت في سياق بيان صادر عن الرئاسة في السادس من يناير الماضي، على هامش اجتماعه برئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج، ورد فيه أن الجزائر تعتبر العاصمة الليبية طرابلس «خطا أحمر ترجو أن لا يجتازه أحد». ووقتها كان الانطباع هو أنه قد لا يكون مهما أن يأتي مثل ذلك التهديد الواضح لميليشيا حفتر بشكل متأخر، لأنه كما يقول المثل الفرنسي، «إن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي أبدا» لكن إطلاق التصريحات واستقبال الوفود وإرسال المبعوثين، لم يكن وحده كافيا ليعطي الجزائر اليد الطولى فيما بات يعرف بالمستنقع الليبي، فقد كان للوجود العسكري المباشر وغير المباشر لأطراف أخرى إقليمية ودولية، الأثر القوي في مجريات الأمور على الأرض، فيما ظلت مبادراتها ومساعيها الدبلوماسية تصطدم بافتقادها لمثل ذلك العنصر، أي الوجود العسكري الداعم والمؤثر. وليس معروفا بعد ما إذا كان القادة الجزائريون قد انتبهوا لذلك حين فكروا في أن يضعوا بندين في مسودة الدستور الجديد، يشير أحدهما إلى أنه «يمكن للجزائر في إطار الأمم المتحدة، والاتحاد الافريقي، والجامعة العربية، وفي ظل الامتثال التام لمبادئها وأهدافها، أن تشارك في عمليات حفظ واستعادة السلام». فيما ينص الثاني على أنه يجوز «لرئيس الجمهورية، الذي يتولى مسؤولية الدفاع الوطني، أن يقرر إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج، بعد مصادقة البرلمان بأغلبية الثلثين من أعضائه»؟ أم أن الأمر كان بعيدا عن حساباتهم؟ ولكن الثابت هو أن الرجل القوي في البلاد، أي قائد أركان الجيش اللواء شنقريحة، كان سعيدا بذلك، بل عبّر ولو بشكل غير مباشر عن تثمينه للخطوة، مؤكدا في أحد خطاباته على أهمية الدستور الجديد في «إعادة تنظيم الحياة السياسية في البلاد، لتتلاءم مع متطلبات ومستجدات المرحلة الجديدة».
وحتى وقت قريب ساد الاعتقاد بأن الجزائريين يبحثون من خلال تلك التحركات عن دور ما في الأزمة الليبية، وأنهم يرغبون في أن يكون لهم إسهام في أي تسوية مقبلة قد تحصل في جارتهم. ولكن التصريح الأخير لشنقريحة، أثبت أنهم يطمحون لما هو أبعد من ذلك. فقد رفع القائد العسكري الجزائري السقف عاليا، وبدلا من أن يكتفي بتذكير جنوده بواجباتهم في الدفاع عن حدود بلدهم، فإنه مضى بعيدا ليقول لهم في كلمة ألقاها الخميس الماضي في القاعدة البحرية مرسى الكبير، عقب حضوره مناورات لسلاح البحر إن «أبعاد السعي الحثيث والجهود المكثفة والمتصلة المبذولة من لدن القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي، لا ترمي فقط إلى الرفع من القدرات القتالية والعملياتية لقواتنا البحرية، باعتبارها رمزا أكيدا من رموز القدرة على حماية مياهنا الإقليمية بسواحلها الممتدة، كما يعلم الجميع، على طول ألف ومئتي كيلومتر، هذه الجهود لا ترمي إلى تحقيق ذلك فقط، وإنما تهدف ايضا إلى إعادة الاعتبار إلى البحرية الجزائرية، التي عاشت فترة ذهبية في تاريخنا المجيد، وكانت تمثل بدون منازع سيدة البحار الأولى، وقوة يحسب لها ألف حساب في البحر الأبيض المتوسط». ومع أن هناك من اعتبر أن مثل ذلك التصريح، لا يمكنه أن يحتمل تأويلا واسعا، وأنه يقف فقط عند مجرد الرغبة بحفز همم العسكريين، إلا أنه سيكون من غير المتوقع أصلا أن يطلق الرجل القوي في الجزائر عباراته تلك بمحض الصدفة، أو تصدر عنه عن ارتجال أو عن تداع عفوي للأفكار والخواطر. فهو يدرك جيدا طبيعة الظرف المحلي والإقليمي ويعلم تماما أن المقصودين بخطابه لن يكونوا البحارة والجنود الحاضرين فحسب، ولا الرأي العام الداخلي فقط، بل دول المنطقة كذلك.
ومن المؤكد أن تلك الدول قرأت ذلك الإعلان بانتباه واهتمام، يعكسان تصوراتها لدور الجزائر في الإقليم. ولكن ما الذي كان يقصده شنقريحة بالضبط؟ وأي أمجاد بحرية فكّر فيها؟ إن استحضار التاريخ بقوة ورمزية شديدة، تجعله يكاد ينطبق على الحاضر ولا يخلو من دلالات، ففي الوقت الذي كان فيه القائد العسكري الجزائري يتحدث عن دور البحرية الجزائرية غرب المتوسط كانت نظيرتها التركية تواجه غرب ذلك البحر، تكتلا من التحالفات الأوروبية ضدها. ومع أن الأمجاد البحرية الجزائرية ارتبطت تاريخيا وبشكل وثيق بمسألتين هما، العلاقات والروابط العميقة بين الجزائريين والعثمانيين الأتراك، ثم التعلق بفريضة الجهاد ضد الغزاة الأوروبيين، إلا أنه ليس معروفا بعد ما إذا كانت تلك الإحالة إشارة ودية نحو تركيا في هذا الظرف بالذات، ومؤشرا على الرغبة في تعميق التحالف غير المعلن معها في ليبيا، وتطويره، مقابل التلويح مجددا بخيار القطع مع فرنسا، رغم ما تشهدته العلاقة معها من حالات مد وجزر ملحوظة. فهل أراد الجزائريون فعلا إشعار الفرنسيين المنهكين والتائهين في الجوار الجزائري، أي في ليبيا ومالي، بأن الجزائر باتت تتطلع لدور أكبر في المنطقة، وأنها تعتبر نفسها الضامن الاكبر لاستقرار ذلك الجزء من المتوسط؟ لكن على ماذا يمكن أن ينطوي ذلك بالنسبة لباقي الجيران المتوسطيين القريبين منها؟ ربما إن استثينا تونس، فإن المغاربة وبدرجة أقل الإسبان لن يطمئنوا كثيرا للطموحات الجزائرية. ولعل الرباط سترى في أي توسع لدور الجزائر في المنطقة تهديدا مباشرا لمصالحها. غير أن ما سيبقى عالقا هو ما الذي سيفعله الجزائريون بالفعل لاستعادة مجدهم البحري والبري أيضا؟ هل سيكفيهم التصديق على الدستور، وحشد السلاح مثلا لتحقيق ذلك؟ أم أن عليهم بذل جهود أخرى داخل بلدهم قبل أن يصوبوا أنظارهم خارجها؟ ذلك السؤال الذي لن يجيب عنه أحد غيرهم.
*كاتب وصحافي من تونس
تعليقات الزوار ( 0 )