ما أخافني فعلا في قضية الصحافي إحسان قاضي ليس فقط تلك الاعتبارات المتعلقة بشروط اعتقاله، الذي تم بعد منتصف الليل، من دون أدنى احترام لقانون الإجراءات الجزائية الجزائري الذي لا يسمح بتوقيف المواطنين.ليلا، باستثناء حالات التلبس، كما هو الشأن بالنسبة لقضايا الإرهاب، التي تبين أنها غير متوفرة في حالة إحسان الصحافي وصاحب الرأي، الذي لم تعرف عائلته ولا الرأي العام التهم الموجهة إلا بعد خمسة أيام من اعتقاله، حين تم تقديمه أمام قاضي التحقيق في البداية ـ من دون محام، حسب معطيات إعلامية – الذي أمر بحبسه المؤقت، بتهم كان من بينها تلقي أموال ومزايا من هيئات وأشخاص داخل الوطن وخارجه، قصد القيام بأفعال من شأنها المساس بأمن الدولة، وعرض منشورات من شأنها الإضرار بالمصلحة الوطنية، كما جاء في بيان وكيل الجمهورية، الذي تم الترويج له من قبل الإعلام الرسمي كجزء من حملة تشوية موجهة ضد الصحافي الذي حافظ على استقلاليته ورفض الدخول في الحظيرة التي يعيش فيها الإعلام الجزائري.
تهم وشروط مثول أمام القضاء جاءت بعد تلك الإجراءات القاسية المتخذة ضد الرجل، على غرار غلق وتشميع مقر المؤسسة الإعلامية التي يديرها منذ سنوات بحضوره – وهو مكبل اليدين- تم من دون تقديم أي وثيقة قانونية للعاملين الثلاثين فيها، الذين وجدوا أنفسهم في حالة بطالة مفاجئة، وهم يهمون بالاحتفال بنهاية سنة وبداية أخرى، لم يكونوا يتصورونها بهذا الشكل كباقي الجزائريين المفجوعين بهذه الممارسات، التي كانوا يعتقدون أنها اختفت من حياتهم.
إحسان الذي تم إيقافه بهذا الشكل القبيح، لإخافته والتأثير في معنوياته، لأهداف سيكون من الصعب تحقيقها لمن يعرف إحسان، الإنسان والمناضل صاحب التجربة المهنية والسياسية، التي انطلق فيها خلال فترة الأحادية الحزبية، ضمن تيار أقصى اليسار وهو طالب في معهد الاقتصاد في جامعة الجزائر، في بداية ثمانينيات القرن الماضي، هو ابن ضابط جيش التحرير، الذي ولد في طرابلس الليبية لعائلة كان فيها الأب مسؤولا عن قاعدة ديدوش التابعة للمخابرات الجزائرية، قبل استقلال الجزائر بسنوات. ما اخافني فعلا في كل هذه القضية بالتفاصيل المرتبطة بها، هي تلك الخشونة التي أبانت عن نفسها على مستوى شكل الاعتقال، وطول مدة الإبقاء تحت النظر، داخل ما يفترض أنه ثكنة عسكرية، وظروف المثول أمام العدالة لاحقا، مقابل نوع من الليونة، بل «التسامح»، كما ظهر من خلال القبول بزيارة المحامين وأفراد من عائلته، وهو تحت النظر الذي دام خمسة أيام كاملة، كسابقة لم تعرفها الحالة الجزائرية على الأقل عندما يتعلق الأمر بإعلامي معروف. تضارب في سلوك المؤسسات قد يكون وراءه صراع بين الأجهزة المكلفة بتسيير الملف، كما عودتنا عليه الحالة السياسية الجزائرية التي تظهر وكأنها لم تتعاف من حالة اضطرابها القديم. بكم التخبط السياسي الذي تعبر عنه في مثل هذه الحالات. حالة اضطراب يكون إحسان قاضي الصحافي صاحب التجربة الإعلامية والعلاقات المهنية الواسعة قد أحال إليها في كتاباته الصحافية في المدة الأخيرة، وهو يتكلم عن الاستحقاقات الرئاسية المقبلة -2024- وموقف المؤسسات المركزية، بما فيها المؤسسة العسكرية منها، وهو يقترح في السياق نفسه، أن يتم تقديم مرشح للحراك يدخلها كطرف مستقل في مواجهة المرشح الرسمي، وعدم السقوط في فخ المقاطعة الانتخابية، كما كان سائدا لوقت قريب، من دون أن ينسى التنبيه إلى صعوبات الذهاب بعيدا في تطبيق هذا الاقتراح الذي نظم حوله حصصا إعلامية مع ناشطين سياسيين، انطلقت بحصة أو حصتين قبل أن يتم توقيف راديو M الذي كان يسيره. لتُقبر الفكرة التي كان إحسان يريد أن يعود الحراك من خلالها إلى النشاط، بشكل قانوني وسياسي منظم، عبر منفذ الانتخابات الرئاسية المقبلة 2024 وتشريعيات 2026 التي كان يظن أن فرص الحراك فيها ستكون أكبر، كبداية مسار سياسي، مقارنة بالرئاسيات التي ستبقى مغلقة إلى مدى لا يعلمه إلا الله، من دون أن ينسى التذكير بعوائق الحالة السياسية التي تقف في وجه اقتراحه المتفائل هذا، الذي أراد من خلاله كسر المنطق السائد الذي ثبط عزائم الجزائريين، وأبعدهم عن العمل السياسي المنظم منذ عقود. وهو ينفرهم من المشاركة في الانتخابات كوسيلة تداول سلمي على السلطة، وتجديد للنخب المركزية، الذي لم يقبل به النظام السياسي الجزائري لحد الساعة، رغم مرور عقود طويلة على الاعتراف بالتعددية الحزبية على مستوى النص القانوني.
اعتقال إحسان وتشميع مقر المؤسسة الإعلامية التي يسيرها، الذي يؤكد العكس، أن السيناريو الأكثر تشاؤما هو الذي يسود الساحة السياسية الجزائرية هذه الأيام، التي لم تعد تقبل بالحد الأدنى من الحريات الإعلامية والسياسية على شاكلة ما كان متوفرا خلال فترة حكم الرئيس بوتفليقة، وحتى بعض مراحل الحزب الواحد. لنكون أمام نوع من الإصرار على تقديم صورة بشعة عن الجزائر للعالم الخارجي، في الوقت الذي يتم فيه الكلام رسميا عن عودة الجزائر إلى الساحة الدولية العربية والافريقية، اكيد انها لن تحتل فيها مكانتها المرجو بمثل هذا الممارسات التي عادت بقوة مع هذا الغلق السياسي والإعلامي المواكب لها. فلمصلحة من يتم هذا التشويه لصورة البلد؟ وما هي دوافعه؟ فهل الحالة المالية للبلد نتيجة ارتفاع مداخيل النفط والغاز حجة كافية لهذا الغلق؟ كما توحي بعض التحليلات السياسية بذلك، بعد تحرر النظام السياسي نهائيا من أي ضغط دولي؟ أم أن الأمر مرتبط باتجاهات سياسية داخلية ثقيلة، لم تتم القطيعة معها على غرار العقلية السياسية الأحادية، التي لم تؤمن يوما بأي إصلاح سياسي، في تعارض واضح مع تطلعات الجزائريين الذين خرجوا للمطالبة بإصلاح نظامهم السياسي بشكل سلمي. أسئلة كثيرة يطرحها الجزائريون هذه الأيام بمناسبة عودة هذه الممارسات التي ظنوا انها قد ولت من دون رجعة، كان من بينها تلك العودة القوية الملاحظة للذباب الإلكتروني الذي تعودنا في الجزائر أن عودته عادة ما تكون للتغطية على ممارسات قمعية يفشل الإعلام الرسمي في الترويج لها، هو الفاقد للحد الأدنى من المصداقية، كما تظهره الحملة التي يشنها على الصحافي قاضي إحسان الذي لقت بالعكس قضيته تغطية إعلامية دولية كبيرة، ستزيد حتما في تشويه صورة الجزائر على المستوى الدولي. وهي تبرز الوجه القبيح الذي أراد لها البعض أن تظهر به والعالم يودع سنة ويستقبل أخرى.
تعليقات الزوار ( 0 )