Share
  • Link copied

لبحث عن المعنى في عالم بلا يقين: جدلية العدمية والوجودية والعبثية بين الفلسفة والرؤية الإسلامية.

في خضم البحث الفلسفي عن معنى الوجود، برزت العدمية والوجودية والعبثية كمحاولات فكرية لاستكشاف موقع الإنسان في هذا الكون وعلاقته بالحياة والموت والقيم. هذه التيارات، رغم اشتراكها في الاعتراف بعدم وجود معنى موضوعي مسبق للحياة، إلا أنها تتباين في كيفية تعاملها مع هذا الغياب. فبينما تغرق العدمية في نفي كل غاية أو قيمة، تسعى الوجودية إلى تمكين الإنسان من خلق معناه الخاص، في حين تقر العبثية بهذا الفراغ لكنها تدعو إلى مواجهته دون استسلام أو وهم.

العدمية تقوم على إنكار أي حقيقة أو قيمة جوهرية للوجود، وترى أن كل ما يعتبره الإنسان ذا معنى ليس سوى بناء زائف لا يستند إلى أساس حقيقي. فيلسوف العدمية الأبرز، فريدريك نيتشه، أعلن عن “موت الإله”، مشيرًا إلى انهيار المنظومة القيمية التي كانت تشكل أساس الأخلاق والدين في المجتمعات الغربية. وفقًا لهذا الطرح، فإن العالم لم يعد يمتلك مرجعية متجاوزة تمنح الإنسان الإحساس بالمعنى، مما يضعه في مواجهة فراغ وجودي عميق. لكن نيتشه لم يكن عدميًا سلبيًا، إذ رأى أن الإنسان يجب ألا يستسلم لهذا الفراغ، بل يسعى إلى تجاوزه عبر إرادة القوة، أي من خلال خلق قيمه الخاصة بعيدًا عن أي مرجعية دينية أو مجتمعية. ومع ذلك، فإن العدمية، رغم منحها الإنسان حرية مطلقة، لا تقدم له إجابة واضحة حول كيفية التعامل مع تبعات هذا الفراغ، مما يجعلها فلسفة تضع الإنسان أمام هاوية لا نهاية لها، حيث ينعدم أي مبرر للحياة أو الأفعال.

على النقيض من ذلك، تسعى الوجودية إلى التعامل مع غياب المعنى بطريقة مختلفة، إذ تعترف بأن الكون لا يقدم للإنسان هدفًا محددًا، لكنها ترى في ذلك دعوة إلى تحمل المسؤولية الكاملة عن صياغة الحياة. جان بول سارتر، أحد أبرز أعلام الوجودية، اعتبر أن الإنسان “محكوم عليه بالحرية”، أي أنه لا يملك أي مبررات خارجية تحدد خياراته، وعليه أن يتحمل مسؤولية أفعاله بالكامل. وبينما رأت الوجودية الإلحادية أن الإنسان وحده في هذا العالم، دون قوة خارجية تمنحه معنى، فإن الوجودية الدينية كما عند كيركغور، نظرت إلى الإيمان باعتباره خيارًا ذاتيًا ينبع من تجربة فردية لا من تسليم أعمى للموروثات. ومع ذلك، تواجه الوجودية تحديات عديدة، أبرزها أن تحميل الإنسان مسؤولية مطلقة عن حياته يتجاهل العوامل الخارجية التي قد تؤثر على خياراته، كما أن الحرية المطلقة قد تتحول إلى عبء نفسي ثقيل يجعل البعض غير قادر على التعامل معها، مما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى نوع من اللامبالاة المشابهة للعدمية.

العبثية، كما طورها ألبرت كامو، جاءت كرد فعل وسط بين العدمية والوجودية، حيث أقرت بعدم وجود معنى للحياة لكنها رفضت الاستسلام لهذا الواقع. وفقًا لكامو، يعيش الإنسان في صراع مستمر بين رغبته في البحث عن معنى وبين صمت الكون الذي لا يجيب عن تساؤلاته. هذا التناقض يشكل جوهر العبث، لكن كامو لم يدعُ إلى الهروب من هذا الصراع، بل إلى تبنيه بوصفه تحديًا. في “أسطورة سيزيف”، يقدم كامو شخصية سيزيف، الرجل الذي حكمت عليه الآلهة بأن يدفع صخرة إلى قمة الجبل لتتدحرج منه مرارًا وتكرارًا، باعتبارها رمزًا لحياة الإنسان الذي يدرك عبثية وجوده لكنه يستمر في العيش رغم ذلك. التمرد العبثي، في هذا السياق، لا يعني الثورة على الواقع بل قبول عدم جدواه مع الحفاظ على موقف واعٍ تجاهه. رغم ذلك، تبقى العبثية فلسفة لا تقدم إجابة واضحة عما إذا كان هذا التمرد قادرًا على منح الإنسان سلامًا داخليًا، أم أنه مجرد محاولة مؤقتة لتجنب مواجهة الفراغ بشكل مباشر.

في ظل هذه الجدليات الفلسفية، يمكن التساؤل عن موقع الرؤية الإسلامية من سؤال المعنى. بخلاف التيارات الفلسفية الغربية التي انطلقت من فرضية غياب الغاية، يقوم التصور الإسلامي للوجود على أن للحياة هدفًا متجاوزًا يرتبط بعلاقة الإنسان بخالقه. الإسلام لا ينكر معاناة الإنسان أمام أسئلة الوجود، لكنه لا يتركه في متاهة العبث، بل يمنحه إطارًا معرفيًا وأخلاقيًا يحقق له التوازن بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والمسؤولية. فالإنسان، وفقًا للمنظور الإسلامي، ليس مجرد كائن تائه في كون بلا غاية، بل هو خليفة في الأرض مكلف بمهمة إعمارها وفق نظام أخلاقي يجعل لحياته معنى يتجاوز البعد المادي.

لكن الإشكالية التي تواجه المجتمعات اليوم ليست في وجود إجابة فلسفية أو دينية عن المعنى، بل في مدى قدرة الإنسان على تبنيها بصدق. العالم الحديث، رغم تقدمه العلمي والتقني، يعيش أزمة عبثية غير مسبوقة، حيث أصبحت العدمية واللامبالاة أشبه بموقف عام تجاه كل شيء. من جهة، هناك حروب مستمرة، صراعات سياسية، وانهيارات اقتصادية تولد شعورًا دائمًا بالفناء، ومن جهة أخرى، هناك هروب نحو اللذة والمتعة والاستهلاك كوسيلة لمقاومة هذا الفراغ. التكنولوجيا، التي كان يفترض أن تمنح الإنسان تحكمًا أكبر في حياته، أصبحت أداة لتعميق العزلة، حيث باتت العلاقات الاجتماعية قائمة على التفاعل الافتراضي أكثر من التواصل الحقيقي، مما زاد من الشعور بالانفصال عن الواقع. في ظل هذه الفوضى، لم تعد الفلسفات التقليدية قادرة على تقديم إجابات كافية، بل أصبحت جزءًا من المشكلة، حيث تحولت العدمية إلى حالة وجودية عامة، والوجودية إلى موقف نظري غير قابل للتطبيق، والعبثية إلى مزيج من السخرية واللامبالاة التي تفقد الإنسان أي إحساس بالمسؤولية تجاه حياته أو العالم من حوله.

الأديان، بطبيعتها، تسعى إلى منح الإنسان بوصلة توجهه في عالم متغير، لكنها تواجه اليوم تحديًا كبيرًا في قدرتها على تقديم إجابة تستوعب هذا العصر. ليس لأن الأديان نفسها عاجزة، ولكن لأن فهم الإنسان لها أصبح إما سطحيًا أو مشوهًا. فمن جهة، هناك من يتعامل مع الدين كإطار اجتماعي أو سياسي فقط، دون أن يعي أبعاده الروحية العميقة، ومن جهة أخرى، هناك من يوظف الدين لتبرير العنف والصراعات، مما جعل الكثيرين يفقدون الثقة في دوره كمصدر للمعنى والطمأنينة. بين هذين الطرفين، يبقى الإنسان المعاصر عالقًا بين البحث عن إجابة حقيقية، وبين الانجراف نحو حالة من العدمية المبطنة التي لا ترفض المعنى بشكل صريح لكنها تتجاهله في الحياة اليومية.

العبث الذي تحدث عنه كامو لم يعد مجرد موقف فلسفي، بل أصبح واقعًا ملموسًا. العالم اليوم يعيش نوعًا من الطلاق بين الإنسان وحياته، حيث فقد الكثيرون القدرة على الشعور بمعنى حقيقي لأفعالهم. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن استعادة الإحساس بالمعنى في عصر تسوده الفوضى؟ هل يمكن للفكر الديني والفلسفي أن يقدما إجابة تستوعب هذا العصر؟ أم أن الإنسان محكوم عليه بالبقاء عالقًا في دوامة البحث دون أن يجد إجابة نهائية؟

Share
  • Link copied
المقال التالي