شارك المقال
  • تم النسخ

لا عن قرب ولا عن بعد، هكذا حرم أطفال الرحل من حقهم في التعليم

يقتربُ الشروق، وبوادرُ الحياة لازالت تنعدم في هذه المنطقة. السيارة رباعية الدفع تسير بأريحية تترامى على الحرية، تتجاوز الأحجار السوداء والأشواك. تسيرُ إلى وجهةٍ وحيدةٍ، خيمةُ أحد الرحل هنا على بعد ما يزيدُ عن الخمسين كيلومتراً عن مدينة الريصاني، المجال الحضري الأقرب لهذا الخلاء.

“بناصا” وحدها مرت من هنا، تنظرُ بأعينها الصحافية، إلى شجر “الطلح” وطائر “السيبو” و”الغراب”، تعكسُ أن ثمة من يعيشُ في هذه الأماكن القصية والعصية على العموم. تنعدمُ الشبكة تماماً في هذه البراري المحدودة بجبال “لحمادة”، والجبال البركانية. كل مرة نتوقفُ لالتقاط مناظر طبيعية نادرة، وكأننا نصور وثائقيات لقناة تلفزيونية عالمية. طائرة الدرون تخُطّ الطريق دونما حواجز نظراً لانفتاح المكان شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.

رحبّوا بنا الرحل، وضعوا لنا الزيتَ والشايَ والخبز المطهي بالأعواد. قد نستغربُ كيف يمتزجُ الفقر والكرم وروح المشاركة لدى هؤلاء. ولكن ما يهمني هو هؤلاء الأطفال، كيف يدرسون؟ عن قرب؟ لا مدرسة في هذا المكان. عن بعد؟ هيهات، لا شبكة ولا وسائل للتواصل في هذه الخيام المتراصة بثبات فوق أرض رمادية تميلُ إلى السواد، وكأن كحل الأعين مسكوبٌ هنا في مشهد غريب وجميل للأرض.

المدرسة نشازٌ!

بعد المرور بالقرب من واد أغريس الممتد على طول المنطقة، بملامحَ عبثت بها التجاعيدُ، يقولُ زايد، أحد الرحالة، إنه لا يفكرُ في إرسال أبنائه للدراسة، لأن “لا حاجة لهم في ذلك”، يقول بلهجة أمازيغية مرتبكة، وكأنه يعتقد أننا نحاول أن ننتزععهم منه ليمارسوا حقهم في التمدرس.

وزاد زايد ويداهُ مشققتان وقدماهُ تنتعلان نعلاً محلياً، أن “ضرورة الأطفال قي الخيمة تكمن في ضمان بقاء نمط الترحال على قيد الحياة، ودورهم الحاسم في تربية الماشية وسرحها، والمساعدة في الأمور الفلاحية، والسقي والري”.

وهو يحملُ منظارهُ ليراقب الماشية البعيدة بأميال، يضيف “أن التنقل إلى المدينة صعبٌ جدا وحتى إرسال أبنائهم ليسكنوا في داخلية أحد المدارس صعبٌ لأنه سيحتاجهم بجانبه هو ووالدتهم”.

وفي مرةٍ سابقةٍ قالت لي إحدى طفلات الرحل، إنها “تريدُ الذهاب إلى المدرسة”، لازلتُ أتذكرُ ملامحها عندما حملتها بالقرب من وادي المعيدر بجماعة سيدي علي.

وأكد مصطفى الهاشمي، المدير الإقليمي للتربية في تصريح حصريّ خصّ به جريدة بناصا، إنه “يعي أهمية الوضع بالإقليم، لأن أغلبية المؤسسات توجد في تجمعات سكنية، لذلك عقدت المديرية شراكةً رسمية مع المبادرة الوطنية للتمنية البشرية لتوفير المدارس المتنقلة لفائدة أبناء الرحل للحصول على حقهم في التعليم”.

وزاد المدير الإقليمي، أنه بعد تشخيص الوضعية، “تم حصر الحاجيات في توفير ستّ حجرات دراسية، بجماعتي الطاوس وسيدي علي، حيثُ ستوفر المديرية الموارد البشرية والتجهيزات اللوجستية”.

وقال حمو أيت القايد، رئيس جمعية المعيدر للثقافة والتنمية، إن “الجمعية حاولت توفير مدرسة متنقلة لفائدة الرحل قبل سنتين، ولكنهم وجدوا عراقيل غير منطقية.” مضيفاً “أن قيادة سيدي علي رفضت طلبَ الجمعية، بحجة أن الأرض التي ستكون فيها الخيمة الدراسية ينبغي أن تكون في ملكية الجمعية”.

واعتبرَ أيت القايد، بطريقة صارمة في الحديث، هذه “المسألة واهية، لأن المدرسة المتنقلة عبارة عن خيمة، مثلها مثل خيام الرحل، لا تحتاج إلى ترخيص، لأنها لن تكون محل منازعات مع أحدٍ ما” متسائلاً وهو يضحكُ “هل سبق وطلبت الدولة من الرحل ملكية للأرض التي توجد بها خيامهم”.

التمدرس يعني التنقل!

وعلق الحسن تغلاوي، الإعلامي المحلي، الذي سبق أن عاش الترحال بمنكقة المعيدر عندما كان طفلاً ببرودةٍ شديدة، أنه “مادام الوالد والوالدة أمّيان، فتلقيائياً ينبغي للطفل أن يساعد في تعميق ثقافة الترحال لضمان استمرارها، إلا قلة قليلة جداً من الرحل التي استطاعت أن تخرج من قوقعة الترحال إلى الاستقرار في مناطق تشهد تحضّرا وتمدنا كالريصاني وأرفود هنا في المنطقة، وكذلك تافراوت بجماعة سيدي علي، لغاية تدريس أبنائهم”.

وأفادَ تغلاوي، أن تمدرس أطفال الرحل يعني تخلي وليهم وذويهم عن الترحال والقطيعة التامة العيش في الخلاء،ضاربا المثل بوالده، قائلاً بصوتٍ متباطئ دونما حاجة للتفكير المسبق “عندما غادر والدي الترحال نحو تافراوت، فكانت له غاية وحيدة، وهي أن نذهب أنا وإخوتي إلى المدرسة ونتعلم”.

وزاد الحسن الذي ذهب إلى كراسي الدراسة بعد أن تجرع مرارة الحرمان بالخيمة خلال طفولته، بنوعٍ من الإحساس بما يقول، نظراً للتجربة، إن “من يفكرُ في إرسال إبنه إلى المدرسة ينظر إلى ذلك في قرارة نفسه وكأنهُ تمرّد على تقاليد القبيلة ونمط عيشها الذي يجتر منذ سنين”.

ومن جهته، قال المدير الإقليمي للتربية، إن “جهود المندوبية، في إطار البرنامج الوطني لمحاربة الفوارق المجالية، تكمنُ في السعي إلى توفير مدارس جمعاتية، تعمل على تجميع أطفال الرحلّ، توفر لهم النقل المدرسي والإيواء والإطعام.” مشيراً إلى أنه “تم إحداث واحدة بجماعة سيدي علي تافراوت، ولكنها لم تنطلق نظراً للظرفية الوبائية”.

واستطرد الهاشمي، أن “أهمية هذه المدرسة الجمعاتية، تتجلى في توفير التعليم لأكثر عدد ممكن من التلاميذ في المنطقة، تفادياً أن يجد الأستاذ نفسه بين، من اثنين إلى ثمانية، تلاميذ في حجرة متنقلة.” مضيفاً “تعهد الوزارة بتوفير السكن لهؤلاء الأستاذة، ليشتغلوا في جو من القرب الجغرافي”.

وعلقَ رئيس جمعية المعيدر، في اتصال مع بناصا، أنهُ طالب الوزارة بدعم الفكرة عبر توفير أستاذ لهؤلاء التلاميذ، ولكن دون استجابة.” مؤكداً أنه “حتى إذا أردنا أن نحضر أستاذاً بدعم من جمعيات أجنبية تتبنى نفس القضايا، فينبغي أن يكون البرنامج المدرّس هو برنامج الوزارة، ولكن كيف نحصل على برامج الوزارة دون دعمها المبدئي؟”، يتساءلُ أيت القايد باستغراب.

وشددَ أيت القايد، على أن مسألة الإيواء تعني البعد عن العائلة خلال الفترة الابتدائية، وزاد انطلاقاً من تجربته الشخصية، أن الأمر “صعبٌ جداً وقد تجعل الطفل يفكر في العودة إلى الخيمة ويغادر حجرة الدراسة.” مستطرداً أن الجمعية طالبت بإدماج أبناء الرحل في برنامج ليكونوا تلقائياً في خضم البرامج التعليمية للدراسة ويتمكنون من إتمام دراستهم ولكنهم لم يلقوا أي رد رسمي”.

وختمَ المشرف على القوافل الإنسانية لفائدة الرحل بمنطقة المعيدر، أنه “صعبٌ أن توفر الوزارة النقل السياحي لأبناء الرحل الذين يبعدون عن الطرق المعبدة، التي لا تجتازها سوى العربات رباعية الدفع.” قائلاً إن المدارس الجمعاتية قد تقتصر على القصور الخمسة أو الستة المحيطة بسيدي علي، أما أبناء الرحل فالمسألة صعبة، لأنهم يغيرون أماكنهم باستمرار”.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي