ما كتب أحدٌ أكثر منّي عن أزمات أهل السُّنّة واستهدافهم، ليس في لبنان فقط، بل وفي سائر أنحاء العالم. وفي قلب أزمات أهل السُّنّة أزمة العرب. فهناك ستّ دول عربية تسيطر فيها وعليها الميليشيات، وتشتعل فيها البراكين الثائرة أو المهدِّدة بالثوران. وأذكر أنّه طُلب منّي عام 2010 مراجعة ترجمة كتابٍ لصحيفةٍ أميركية عنوانه: “أفول أهل السُّنّة”. وكانت تلك حيلة من الناشر الذي قال للمترجم: إذا استطعتَ إقناع رضوان السيّد بالتقديم للكتاب فأنا مستعدٌّ لنشره! كان الكتاب يتحدّث عن قتل أهل السُّنّة وتهجيرهم بالعراق بعد الغزو الأميركي. وخلاصة ما ذكرته المؤلّفة أنّه قُتل منهم أكثر من أربعمئة ألف وتهجّر خمسة ملايين. وهذا كلّه قبل مقاتل داعش وبعدها، وقبل مقاتل سورية وبعدها. وكنتُ في عام 2004 قد أصدرتُ كتاباً عنوانه “الصراع على الإسلام” يتعاطى مع آثار الحرب الأميركية على العراق في العراق وفي أميركا وعلى المسلمين في العالم. ويتّضح من هذين العنوانين تحميل المسؤوليّات في الأزمات على عواتق الجهات الخارجية الإقليمية والدولية.
من يتحمّل المسؤولية؟
لكنّ هذه البحوث الأكاديمية والأُخرى الصحافية والإعلامية، ما كانت ذات جانبٍ واحدٍ، بمعنى أنّ مصائب أهل السُّنّة آتية من خارجهم. فقد كتبت أكاديميّات وإعلاميّات أيضاً عن مسؤوليات المسلمين أنفسهم عمّا نزل وينزل بهم، وفي السياق نفسه كان كتابي عن “سياسات الإسلام المعاصر” عام 1997 وكتابي بعنوان “أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي” عام 2014.
هناك أزمات، وهناك استهدافات. ومن آثار الأزمات حصول الانشقاقات والتيّارات العنيفة. لكن لا يُنكر أنّ الاستهدافات لا تنحصر في مشكلات الدواخل. فلا ذنب لمسلمي العراق وعربه في غزو الأميركيين لهم، وتشريدهم تحت كلّ كوكب، وكذلك مسلمو سورية وعربها، وعرب لييبا، وسُنّة لبنان، والآن عرب السودان وأفارقته. لقد ثار شيخ الأزهر لقيام المستوطنين بتمزيق القرآن الكريم، وله الحقّ في أن يثور من أجل القرآن والأقصى واحتلال فلسطين. لكنّ رئيس وزراء الهند وحزبه بل والدولة الهندية في عهده تضطهد المسلمين اضطهاداً شديداً. العرب يستنكرون ما يحدث في فلسطين، لكن ما قال أحدٌ شيئاً لرئيس وزراء الهند. وما عاد أحدٌ يذكر شيئاً عن مسلمي الروهينغا في ميانمار أخيراً، وباستثناء الأميركيين ما قال أحدٌ شيئاً للصين عن الاضطهاد الذي ينال من مسلمي سينكيانغ! مظالم الشعبويّات الإجرامية الصاعدة في سائر أنحاء العالم مفزعة، إنّما الأشدّ إفزاعاً أنّ معظمها لا يُدينه أحدٌ إن كان ضدّ الإسلام، الذي جعل الغرب من صوفته حمراء أصلاً.
نعم في لبنان أزمة لدى أهل السُّنّة في الحياتين المعيشية والسياسية. والأزمة عامّة في لبنان كما هو معروف، لكنّ أهل السُّنّة أزمتهم هي الأشدّ وقعاً باعتراف الجميع
أزمة سُنّة لبنان هي الأشدّ
لنعُد إلى لبنان. نعم في لبنان أزمة لدى أهل السُّنّة في الحياتين المعيشية والسياسية. والأزمة عامّة في لبنان كما هو معروف، لكنّ أهل السُّنّة أزمتهم هي الأشدّ وقعاً باعتراف الجميع. ولنضرب مثلاً بالمهجَّرين السوريّين، فاللبنانيون جميعاً واقعون تحت الضرر وكذلك مرافقهم وبناهم التحتية، لكنّ معظم المهجّرين كما هو معروف يقطنون في المواطن السكّانية السنّيّة، حيث يزيدون في الإرهاق الاجتماعي المتفاقم أصلاً.
لكنّ المراقبين عندما يذكرون الأزمة هذه الأيام فإنّما يعنون الجانب السياسي منها، وبخاصّةٍ ما شهدته وتشهدُهُ حرب انتخاب رئيسٍ للجمهورية. فممثّلو أهل السُّنّة في المجلس النيابي صوَّت نصفُهم تقريباً لمرشّح الحزب، على الرغم من معرفتهم أنّ الجمهور الذي انتخبهم لا يريد ذلك ولا يقبله. ما علّةُ ذلك؟ الإجابة أن ليست هناك قيادة سياسية عند السُّنّة بالذات، ولذلك معظمهم تابعٌ لهذه الجهة أو تلك. لقد كنّا دائماً نعتزّ بأنّنا لسنا طائفة تتحزّب في جبهةٍ كما عند الثنائي الشيعي وعند غيره. ولو كانت الحياة السياسية في لبنان سليمة، لكان وضعنا سليماً يقوم على أحزاب غير طائفية، وجبهات ذات برامج سياسية لا تكون الطائفية مسيطرةً عليها، لأنّها تكون متعدّدة طائفياً. إنّما الواقع غير ذلك، وهذه هي المشكلة. ولكن لنعُد إلى أهل السُّنّة. لماذا لا تقوم أحزاب تعدّدية؟ لأنّ الاستقطاب الطائفي يزداد عنفاً. ولذلك لا أعرف كيف أستطيع أن أنصح فلاناً بأن يكون أميناً لناخبيه، وهم في معظمهم سُنّة، أي أن يسعى إلى كتلة سنّيّة؟! إنّما ليس هذا هو المقصود، بل المقصود النظر في المصالح الوطنية، التي تقتضي الخروج من هذا الاستقطاب المُهلك. لقد كان السُّنّة ملتفّين حول الرئيس رفيق الحريري، ومن بعده ابنه سعد الحريري بنسب مختلفة أيضاً. لكنّ سعداً اعتزل الحياة السياسية، وجرى القول إنّ جماعته بلبنان يتدخّلون سرّاً وعلناً في الانتخابات (بدون علمه؟). وأنا نظرت فوجدت أنّ انتخابات عام 2009 صنعَت من سعد الحريري زعيماً سياسياً، وما عاد بحاجةٍ إلى الاعتماد على تراث والده أو سُمعته: فهل تصبح لدى أهل السُّنّة قيادة سياسية لو عاد سعد للحياة السياسية؟ الذي أعرفه أنّ النواب الذين نجحوا في انتخابات عام 2022 هم من مواريث سعد الحريري ووالده في معظمهم، وقد تشرذموا، فصار بعضهم لا يعرف ماذا يريد، والنصف الآخر استتبعه الحزب ومغرياته. والدليل على الاستتباع فَقْدُ النصاب بعد التصويت الأوّل، بمعنى أنّ كثير من النواب السُّنّة انسحبوا مع نواب الثنائي من دون تردّد. لو بقوا لقلت إنّهم يتبعون الدستور، لكنّهم لم يفعلوا، علاوة على الذين لم يصوّتوا لأحد ووضعوا شعارات غريبة أو متفرّدة.
على من تقع المسؤولية في الظاهرة الحاصلة؟ على النواب أنفسهم، وعلى الجمهور الذي دأب على انتخابهم مع أنّهم ما كانوا أمناء له بالمعنيَيْن الصغير والكبير.
لا أريد تبسيط الأمور. فالمسلمون في لبنان عانوا معاناةً شديدةً مثل مسيحيّي التغيير، حتى خضعوا أو أُخضعوا. ومع ذلك يكون على المرء احترام نفسه واتّباع ما يعتقد، وهو الأمر الذي لا يفعله أكثر نوّاب السُّنّة المَبْيوعين.
في الخلاصة لا بدّ من قيادة سياسية وأخرى دينية. عندما تكون هناك قيادة دينية مقنعة للجمهور، يكون كلّ عالم دين مسؤولاً عن “رعيّته”، وكذلك في السياسة، كما جاء في الأثَر النبوي. وما حدث يدلّ على أنّ أهل السُّنّة يختزنون طاقةً للمقاومة، لكنّ ممثّليهم مستتبَعون أو سيكونون كذلك. هل أهل السُّنّة في أزمةٍ الآن؟ نعم هم كذلك، لكن ليس بسبب ضغوط الحزب المسلّح بالدرجة الأولى، بل بسبب تزعيم غير الأكفّاء، وضعف الشخصيّات، وتجاوز حدود الواجب والكرامة.
لا بدّ من التغلّب على الأوهام بالوعي والإرادة، وأن لا نخدع ولا ننخدع. وقد تكرّر الانخداع حتى صار استذلالاً. فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.
تعليقات الزوار ( 0 )