ما تفسير ما يحدث في سوريا كمقدمة ضرورية لاتخاذ موقف مما يجري؟ يبدو الأمر بداية صعبا بحكم طبيعة الأزمة السورية وتداخل عديد من الأطراف في صناعة الأحداث وفي التوقيت المتزامن مع معركة طوفان الأقصى وتبعاتها على القضية الفلسطينية وإيران ومحورها والمنطقة ككل، بالإضافة إلى أن الأمر يتعلق بأزمة انطلقت كانتفاضة تطالب بالحرية في سوريا.
فهل يتعلق الأمر بفصل من ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد، أم أنه استمرار لمؤامرة أمريكية-صهيونية ضد سوريا ومحور المقاومة؟ أم ان الأمر يجد تفسيره في غير ما ذكر؟ لذلك جاءت الآراء مضطربة بين من يعتبرها ثورة وبين من يعتبرها مؤامرة.
لابد إذن من منهج في القراءة والتحليل، فالعقل المثالي الاختزالي سيقع لا محالة في إحدى القرائيتين السابقيتين، لذلك فلا بد من الجدل.
عسكرة الثورة:
تنتشر قراءات تحمّل الثوار مسؤولية ما آل اليه الوضع في سوريا بسبب لجوئهم للخيار العسكري لإسقاط نظام الأسد، وهي قراءات بدأت تخترق حتى من كان يدافع قبل سنوات عن الثورة السورية، فالعسكرة وفقا لهذا الرأي كانت خطأ استراتيجيا ارتكبه الثوار، لكن هذا الرأي بالإضافة إلى عدم اخلاقيته لتبرئته لنظام الأسد من المسؤولية عن الوضع الذي وصلت اليه سوريا من مأساة تسببت بمقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين، فهو رأي غير موضوعي مفارق للواقع، يقرأ الواقع السوري بغير الواقع السوري، فهو يقرأ الواقع السوري بواقع أولئك المحللين، فهم يسقطون واقعهم على واقع آخر.
إن الخطأ الفادح لهؤلاء انهم يقرؤون الواقع السوري بمنطلق الدولة “العادية”، وهنا يقيسون واقع الدولة الحديثة “النموذج” بواقع تجربة الدولة في سوريا، وقد فاتهم ان تجربة الربيع العربي لا تسفعهم في تلك القراءة، فالاختلاف بين التجارب التي مر منها الربيع تؤكد تهافت قراءتهم غير الموضوعية، فلماذا لم تنتهي التجربتين المصرية والتونسية بخيار العسكرة في حين وقع العكس في ليبيا وسوريا؟
الجواب انه في مصر وتونس تم بناء دول وطنية بجيوش محترفة غير طائفية وبيروقراطية حديثة وموحدة وواسعة، لذلك ففي التجربتين سقط رأس النظام لكن بقي النظام، حيث ان الجيش والبيروقراطية –جهاز الدولة- غير مرتبطين برأس النظام بل بالنظام نفسه.
أما في ليبيا وسوريا فقد سقط النظام وبقي رأسه، لأنه تم بناء جيوش و”بيروقراطية” مرتبطة بشخص القائد تعتمد على القبيلة والطائفة، لهذا عندما اندلعت الانتفاضة تشابه الوضع بين سوريا وليبيا من عدة نواحي: 1)استقالات واسعة وسريعة في الجهاز البيروقراطي الضعيف داخليا وخارجيا شملت مراكز مهمة (رئاسة الوزراء، الوزراء، السفراء،…) 2)انهيار سريع للجيش، بل وتحول جزء كبير منه ضد رأس النظام، وهذا هو أحد المداخل لتفسير عسكرة الثورة 3)الاستعانة بالمرتزقة والميليشيات الأجنبية لدعم النظام في مواجهة الثوار، وهو ما يعني عدم وجود قاعدة مجتمعية قوية وواسعة تلتف حول النظام.
إذن هل يمكن الحديث في التجربة السورية عن دولة حديثة ما دام “جهازها” غير متطابق مع الدولة الحديثة ومرتبط بالطائفة !؟ وفي غياب الدولة هل سيصعب إذن فهم سرعة اللجوء لعسكرة الثورة!؟
أمريكا والثورة السورية:
كيف نفسر الموقف الأمريكي من الثورة السورية؟ هل أرادت امريكا بالفعل نجاح الثورة وسقوط الأسد؟ أم انها قادت مؤامرة ضد سوريا؟
سيجيب العقل المثالي بأحد الإجابتين، إما ان امريكا كانت مع الثورة أو ضدها.
أمريكا كانت مع الثورة وضدها في الوقت نفسه، أي انها لم تكن لا مع الثورة ولا مع النظام. كيف ذلك؟ كانت مع مصالحها.
لو أرادت امريكا اسقاط الأسد لفعلت في السنوات الأولى للثورة حينما كان الثوار على بعد أمتار من القصر الجمهوري، ولو أرادت امريكا اسقاط الأسد لمنعت طائرات النظام –قبل الدخول الروسي لسوريا بمدة طويلة- من التحليق وقصف المدن بالبراميل المتفجرة، وقد كان الضعف الأكبر للثوار هو التعامل مع سلاح الجو، كما رفضت امريكا تزويد الثوار بالسلاح المضاد للطيران.
لكن امريكا في الوقت نفسه وفرت جزءا من السلاح للثوار وأوعزت لدول في المنطقة بدعم الثوار وبتوفير دعم دبلوماسي لهم.
إذن، ما موقف امريكا؟
إن موقفها هو استمرار الأسد مع اضعاف سوريا واللاعبين الاقليميين خصوصا ايران وتركيا، فقد وفرت الأزمة في سوريا لأمريكا فرصة اشغال دول المنطقة في صراعات بينية على الأرض السورية، وبالفعل فقد شكلت سوريا نزيفا لتلك الدول، وكانت لها تأثيرات سلبية وخيمة عليها، وكادت أن تتسبب في إسقاط الرئيس التركي اردوغان.
إن أمريكا لا تريد اسقاط نظام الأسد، فالعقيدة الاستراتيجية الأمريكية أصبحت ضد اسقاط الأنظمة في غياب بديل سلطوي قادر على فرض الأمن في دول المنطقة خصوصا المجاورة لإسرائيل.
إنها عقيدة تم التأسيس لها ضمن الولاية الثانية للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، حين تم التخلي عن الطموحات المقررة في برنامج عمل المحافظين الجدد، وعلى رأسها تغيير الأنظمة والهندسة الاجتماعية.
وذلك التغيير سببه التجربة المريرة للولايات المتحدة في العراق وافغانستان، حيث أدى انهيار النظامين وفشل الهندسة الاجتماعية الطموحة في نقل البلدين الى بلدين ليبراليين إلى انهيار الدولتين وتحولهما إلى دولتين فاشلتين، فشل شكل معضلة للولايات المتحدة وكلفها مبالغ مالية ضخمة والآلاف الضحايا الأمريكيين فضلا عن مئات الآلاف من الضحايا العراقيين والافغان، كما تحول الفشل الأمريكي إلى حرب استنزاف تورطت فيها الولايات المتحدة وأعاقتها عن مواجهة خصومها الرئيسيين وعلى رأسهم الصين.
يعتبر كتابا فرانسيس فوكوياما “امريكا على مفترق الطرق” و”بناء الدولة” عنوانا على فشل برنامج عمل المحافظين الجدد، حيث اعلن فوكوياما من خلالهما انفصاله عن المحافظين الجدد وقدم نقدا قاسيا لبرنامجهم خصوصا مسألة اسقاط الأنظمة والهندسة الاجتماعية الطموحة، وأكد ان الدولة الفاشلة هي التحدي الرئيس أمام الولايات المتحدة.
لقد اعتبر فوكوياما صدام حسين عدوا، لكنه كان عدوا عاقلا ويمكن انجاز التسويات معه، ووجود عدو عاقل خير من عدم وجود مخاطب. إنه التوجه الذي حكم السياسة الخارجية الأمريكية منذ الولاية الثانية لبوش الإبن.
وضمن هذا التوجه تم التخلي عن أجندة اسقاط النظامين الإيراني والكوري الشمالي ضمن ما عرف بمحور الشر بالإضافة إلى العراق زمن صدام. وقد أكدت استراتيجيات الأمن القومي على هذا التوجه منذ تلك الفترة، وقد برز بشكل كبير في برنامج الحزب الديمقراطي سنة 2020 وفي سياسات الرئيس بايدن.
وهو ما يفسر الحوار الأمريكي مع طالبان وعودة الأخيرة لحكم افغانستان، وهو ما يسفر كذلك الموقف من حماس في إدارة قطاع غزة، فبالرغم من الموقف الصهيو-أمريكي من الحركة وحروبهما الدورية ضد القطاع إلا ان التوجه كان هو عدم اسقاط الحركة –في غياب بديل- من تدبير القطاع خوفا من دخوله مرحلة الفوضى، وفي الأيام الأخيرة وبعد مرور سنة من حرب الإبادة في غزة بدأ الحديث الاسرائيلي عن الخوف من القضاء التام على الحركة لأن ذلك يعني القضاء على أي حظوظ في استعادة الأسرى الصهاينة لعدم وجود مخاطب قوي قادر على تنفيذ اتفاق التبادل، وهو ما يفسر كذلك رفض وزير الحرب السابق غالانت ومعه المستوى العسكري والأمني أي احتلال عسكري صهيوني لغزة وضرورة إيجاد سلطة قادرة على فرض الأمن في غزة، لأن الخوف الصهيوني هو الفوضى الشاملة في القطاع، لأنها ستكون مكلفة جدا لدولة الاحتلال ماليا وبشريا.
لذلك فبقاء الأسد مصلحة امريكية صهيونية، لأنه منح دولة الاحتلال لعقود طويلة الحماية على حدودها مع سوريا، ولأن سقوط الأسد وغياب سلطة قادرة على ضبط الأمن والحدود، وتحول سوريا إلى دولة فاشلة أو قيام نظام جديد معادي لدولة الاحتلال هو خطر استراتيجي على الكيان الصهيوني لأنه سيضطره إلى فتح اخطر جبهة أمامه بعد الجبهة المصرية، ولأن سوريا جغرافيا مفتوحة على مناطق لا تستطيع دولة الاحتلال ضبطها.
ينطلق المدافعون عن بشار من قراءة مفادها أن اضعاف سوريا مطلب امريكي صهيوني وبأن المطلوب تقوية الدولة في سوريا لا اضعافها، وهنا نسأل، لماذا لم يتم توظيف القراءة نفسها عند الحديث عن لبنان واليمن !؟
فالمدافعون عن الأسد دافعوا على انقلاب الحوثيين بدعم ايراني-إماراتي-سعودي ضد الحكومة الشرعية في اليمن، وقاموا بتقسيم اليمن بتحالف مع القوى الرجعية لعبد الله صالح المدعومة من قبل الإمارات والسعودية، بالرغم من ان الحوثيين كانوا جزءا من الحوار الوطني في اليمن والذي كان قريبا من الوصول إلى نتائج تخدم وحدة اليمن وتقوي الدولة هناك.
وفي لبنان فالمدافعون عن الأسد يدافعون عن حزب الله ولا ينطلقون من قراءة تقوية الدولة ومؤسساتها وعلى رأسها الجيش، لأن ذلك يعني حصر السلاح في يد الجيش، فالدولة في اليمن ولبنان تم اضعفاهما بإسهام قوي من القوى الداعمة لإيران وبشار الأسد.
ومنذ انطلاق الطوفان فقد ظهر مستجد يؤكد ان الدول الفاشلة خطر على دولة الاحتلال، حيث تأكد ان مصدر القلق الرئيس لدولة الاحتلال وحلفيها الأمريكي يأتي من دول ضعيفة اليمن ولبنان والعراق، فهي الدول هي التي شكلت جبهات الإسناد للمقاومة في فلسطين، في حين ان الدول الراسخة إما كانت متواطئة مع دولة الاحتلال أو لا تمتلك تأثيرا في الحرب الدائرة.
إنها مفارقة تحتاج لمزيد من الرصد والتحليل حينما يأتي الخطر الحقيقي لدولة الاحتلال من دول ضعيفة في حين تتحول الدول الراسخة لفاعل هامشي أو متواطئ معها. صحيح أن المطلوب هو تقوية الدولة وتمتين شرعيتها ومناعتها، لكن في الحالة السورية وكما أشرنا فالأمر لا يتعلق بدولة بل بنظام طائفي، بل ويعتمد على الأقلية الطائفية. لذلك فالمطلوب هدم النظام في أفق بناء الدولة السورية الحقيقية لا المزيفة.
باحث في الدراسات السياسية والدولية
تعليقات الزوار ( 0 )