Share
  • Link copied

كورونا ومسار تحولات النظام الدولي

يعيش النظام الدولي حاليا تحولات جوهرية، واختبار لمبدأ الثقة والصمود في مواجهة الانتشار السريع لوباء ” كوفيد19″ المعروف بكورونا، الذي تتجاوز آثاره كل الحدود الجغرافية، مما قد يؤدي إلى زعزعة ركائز هذا النظام الأحادي القطبية، ويمس بمصداقية المنتظم الدولي في ظل تعاطيه المتأخر والهش مع الأزمة الدولية والغياب الواضح للأدوار التي أسست من أجلها هيئة الأمم المتحدة المتعلقة بالتعاون والتضامن والحفاظ على السلم والأمن الدوليين، كما أنه من المحتمل أن تقلب تداعيات الوباء موازين القوى السائدة حاليا، و قد تشكل نقطة تحول مهمة في السياسة الدولية الحالية، وتحديا حقيقيا لمسار النظام الدولي، وأحد الاختبارات الكبرى لقدرته على الاستمرارية والبقاء في مواجهة الأزمة بكل تداعياتها الدولية التي مست القدرات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والبيئية للدول، وربما تكون له عواقب سيكولوجية على سلوك البشرية على المدى الطويل.

كما هو معروف، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اتفقت القوى الكبرى على خلق كيان أممي “هيئة الأمم المتحدة” كوعاء لاستيعاب الخلافات والنزاعات الدولية بالطرق السلمية بدل اللجوء إلى القوة إلا في الحدود المشروعة، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين بكل أبعادهما، إلا أن تحكم الدول الخمس التي تمتلك حق الاعتراض “الفيتو” بمجلس الأمن الدولي، أفقد الهيئة الأممية الدولية الدور الذي أسست من أجله، مما جعل طبيعة وشكل النظام الدولي يتطور ويتغير باستمرار لا سيما خلال الحرب الباردة التي أفرزت ثنائية قطبية بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا، ثم بعد ذلك ظهور نظام أحادي انفردت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بزعامة العالم، وهيمنت سياستها على المعترك الدولي من خلال تدخلاتها الواضحة في كل القضايا الدولية وفي كل بؤر التوتر المشتعلة ببقاع العالم معتمدة في ذلك على ذرائع مختلفة، ضاربة بمواثيق وقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية عرض الحائط، ومستهدفة بذلك خدمة مصالحها وأجنداتها الذاتية، ومقابل ذلك طغى على الساحة الدولية في الآونة الأخيرة فاعل جديد في السياسة الدولية، كقوة شرسة ومنافسة للولايات المتحدة الأمريكية في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، مما أدى في كثير من الأحيان إلى نشوب صدامات تجارية بينهما.

إذا كان ظهور وباء كورونا الذي لازال يحصد المزيد من الأرواح ويلحق المزيد من الخسائر المادية التي من المحتمل أن كون مؤشرا على بداية انهيار الاقتصاد الليبيرالي العالمي، فإنه شكل محور الصراع من أجل النفوذ والهيمنة الدولية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، لاسيما في ظل الاتهامات المتبادلة بين البلدين حول الجهة التي نشرت الفيروس وهددت حياة البشرية، وربما هذه المؤشرات ستؤدي لا محالة إلى تحول محور العولمة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى عولمة تتمحور حول الصين العملاق النائم، ومن ثم انهيار الزعامة الأمريكية للعالم حسب بعض الخبراء الذين يرجعون هذا الاحتمال إلى عدة عوامل تتعلق بالدرجة الأولى بسلوك الإدارة الأمريكية في التعاطي مع الوباء والقائم على تغليب المصالح الأمريكية الذاتية الضيقة وتدبير الأزمة بشكل انفرادي مغلق، أدى إلى تهديد ثقة الأمريكيين  في قدرة النظام الأمريكي بكل مؤسساته على الاستجابة لمطالب مواجهة الوباء على المستوى الداخلي،  فبالأحرى استجابته للمطالب الخارجية، وفشل الإدارة الأمريكية في القدرة على حشد إجماع عالمي وتنسيق المساعي الدولية للاستجابة للأزمة بالسرعة المطلوبة كما فعلت مع أزمات دولية سابقة، زد على ذلك قصور ومحدودية المنظمات الدولية في التعامل مع الأزمة بالسرعة المطلوبة والدقة في التعاطي مع المعلومات المتعلقة به، كلها هذه المعطيات تقابلها عوامل أخرى تتعلق بنجاح الصين في احتواء الوباء وحصولها على اعتراف دولي بتفادي الكارثة، وقدرة إدارتها على الاستجابة لمطالب بقية دول العالم، بتقديم المساعدة لها عبر مجموعة من الخدمات الطبية والتقنية لمواجهة الوباء، وفي هذا الصدد استطاعت الاستجابة لنداءات إيطاليا وإيران ودول أخرى بإرسال العديد من أجهزة التنفس الصناعي والأقنعة الواقية والمعدات الطبية إضافة إلى الأطقم الطبية، وتصريف تجربتها الناجحة في التعامل مع الوباء  في محاولة لكسب ود هذه الدول، في ظل تقاعس وعجز الاتحاد الأروربي عن الاستجابة لمطالب الدول الأعضاء المتضررة من الفيروس بالسرعة والفعالية المطلوبة (إيطاليا وإسبانيا)، مما قد تكون له انعكاسات خطيرة على تحديد مستقبل الكيان ما بعد الأزمة، وهو ما عبرا عنه بشكل واضح كل من رئيس وزراء إيطاليا ووزير خارجية إسبانيا.

من جهة أخرى يرى الخبراء بأن تأثيرات وباء كورونا قد تتجاوز الطابع الاقتصادي الدولي إلى ما هو سياسي بتسريع تغيير موازين القوة في السياسة الدولية بشكل تدريجي يخدم بعض الأنظمة ويمس بأخرى، إذ من المحتمل أن تضعف بعض الأنظمة السياسية القوية، وقد تسقط بعض الأنظمة الهشة، على أن تتقوى أنظمة أخرى، كما قد يكون من تداعيات الجائحة بناء أنظمة سياسية أكثر انغلاقا ومركزية وأقل حرية من خلال تغول الدولة الوطنية (المتدخلة).

للخروج من المأزق، ومواجهة الوباء يرى الخبراء بضرورة  تكثيف جهود المجتمع الدولي، وفق رؤية شمولية وموحدة بعيدة عن النزعات القومية والحسابات الذاتية التي تخدم المصالح الضيقة للدول، وتسطير برنامج تعاون دولي على وجه السرعة، تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة كمؤسسة راعية للسلم والأمن الدوليين والمؤسسات التي تشتغل تحت رعايتها، واتخاذ رزمة من التدابير والإجراءات الآنية لتضميد جراح الاقتصاد العالمي الذي أبان خلال هذه المرحلة عن هشاشته البنيوية، وعدم قدرته على مواكبة مجريات الأحداث الدولية، مع إعادة ترتيب أولويات السياسة الدولية في جميع المجالات، وإعطاء مفاهيم الأمن الصحي والغذائي والبيئي أهمية قصوى في برامج المنتظم الدولي مستقبلا، في أفق مواجهة الفيروسات المحتملة بكل أصنافها، ودعوة الدول إلى الاستثمار في مجالات البحث العلمي والتكنولوجي المرتبطة بالمجال الطبي، وإعادة ترتيب أولويات سياساتها العمومية من أجل ضمان الكرامة الإنسانية  والعدالة الاجتماعية والأمن بكل أبعاده.

*باحث في القانون العام والعلوم السياسية

Share
  • Link copied
المقال التالي