جلس مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وقد أحاطت به جيوش العباسيين، وعلى رأسه خادم قائم، فقال مروان لبعض من يخاطبه : ألا ترى مانحن فيه؟ لهفي على أيد ما ذكرت، ونعم ما شكرت، ودولة ما نصرت. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين من ترك القليل حتى يكثر، والصغير حتى يكبر، والخفي حتى يظهر، وأخر فعل اليوم حتى غد، حل به هذا .. وأكثر. فقال مروان: هذا القول أشد علي من فقد الخلافة.
هذه القصة التي حصلت في عالمنا الإسلامي ـ وفي فترة حاسمة من تاريخه كان فيها يستعد لتوديع عهد أموي آفل واستقبال عهد عباسي كانت حينها إرهاصات تشكله قد بدأت تلوح في الأفق ـ يمكننا أن نستخلص منها الكثير من الدروس و العبر أهمها أن التأخير في حل المشكلات في الوقت المناسب والتسويف والمماطلة في اتخاذ القرارات الحاسمة عادة ماتكون له عواقب وخيمة، وتذكرنا أزمة وباء كورونا الحالية والأخطاء الفادحة التي وقع فيها العديد من قادة الدول الكبرى في العالم في تعاملهم مع هذه الأزمة وقبلها بقصة مروان بن محمد السالفة الذكر، وتلك الأخطاء هي التي سمحت لهذا الفيروس بالتغول ليتحول من فيروس محدود الانتشار يقتصر وجوده على إقليم واحد من أقاليم الصين إلى وباء عالمي أصاب ما يقارب من مليون ونصف المليون من البشر في 192 دولة وفتك بحياة ما يقارب من 150 الف شخص، ولا تزال هذه الأعداد قابلة للزيادة .
وستحاول هذه المقالة في عجالة أن تقف عند أهم تلك الأخطاء التي ارتكبها أولئك القادة القادة والتي يمكن أن يتم اعتبارها اختلالات عميقة يجب البدء في معالجتها على الفور، ويمكن اعتبارها دروسا للزمن القادم، وهذه الدروس هي على الشكل التالي:
1ـ أزمة كرونا لا تشبه ما قبلها
على الرغم من أن العالم قد سبق له أن عرف كوارث ومحن لا حصر لها ومر بأزمات كبرى وأحداث كثيرة وكبيرة غاية في الخطورة فإنه لا شيء من تلك الأحداث والمحن والكوارث على الإطلاق يشبه أزمة كورونا الحالية، صحيح أن العالم سبق له وعرف حربين كونيتين مدمرتين راح ضحية الأولى منهما مايقارب 10 ملاين قتيل فيما راح ضحية الثانية منهما ما يقارب 55 مليون قتيلا هذا علاوة عن عشرات الآلاف من المصابين والجرحى والمفقودين وخسائر اقتصادية تقدر بمئات الملايين من الدولارات، كما سبق للعالم ومر بالعديد من الأزمات الاقتصادية الخانقة، أهمها: أزمة العام 1929 التي استمرت زهاء العقد من الزمان ونجمت عن تدهور معدلات النمو الاقتصادي في معظم بلدان العالم، ونتج عنها افلاس عدد كبير من المؤسسات المالية في مختلف أنحاء العالم، وإغلاق عدد هائل من المصانع في الكثير من بلدان العالم، إلا أن أيا من تلك الأحداث والأزمات وعلى الرغم من خطورتها وجسامة التأثيرات والتداعيات التي خلفتها على دول العالم لا يمكن مقارنتها بأزمة كورونا الحالية، لا من حيث حجم الانتشار ولا من حيث عمق التأثير الذي أحدثته على النظام الدولي ومختلف الدول التي يتشكل منها هذا النظام، فمن حيث الانتشار فإن كلا من الحربين الكونيتين وعلى الرغم من حجم الدمار الكبير الذي أحدثتاه وعلى الرغم كذلك من اشتراك بعض القوى غير الأوربية فيهما، مثل اليابان والولايات المتحدة على سبيل المثال، فإنهما في حقيقة الأمر كانتا لا من حيث الأطراف الرئيسية التي شاركت فيهما ولا من حيث رهاناتهما حربان أوروبيتان بالأساس، حتى ولو أن كلا من هاتين الحربين قد طالت مناطق أخرى غير أوروبية، فإن ذلك كان لأن هذه المواقع تم اختيارها من قبل الأروبيين لتكون ساحات للقتال فيما بينهم، كما هو حال ليبيا على سبيل المثال، التي كانت من بين المواقع التي اشتبكت فيها قوات المحور مع قوات الحلفاء، ومع ذلك فإن مناطق عديدة من العالم قد بقيت بمنأى عن تلك الحرب وتأثيراتها المباشرة، ونفس الشيء يمكن قوله عن الأزمة الاقتصادية العالمية للعام 1929، التي طالت تأثيراتها بالأساس كلا من الولايات المتحدة وأوروبا، بحيث كانتا أكبر المتضررين من هذه الأزمة، أما باقي بلدان العالم فإن بعضها لم تطله تأثيرات تلك الأزمة في حين أن بعضها الآخر طالته تأثيراتها لكن دون أن تحدث فيه نفس الضرر الذي أحدثته في الولايات المتحدة وأوروبا، أما أزمة كورونا الحالية فإنه لا يمكن مقارنتها من حيث حجم الانتشار مع الأحداث السابقة، إذ أنها قد طالت العالم من أقصاه إلى أقصاه فاكتسح وباء كورونا حتى الآن 192 دولة من دول العالم ولا زال العدد مرشحا للزيادة، كما أن حجم التأثير الذي أحدثته وستحدثه أزمة كورونا الحالية في النظام الدولي هو تأثير هائل وكبير بكل المقاييس، وبالتالي فإن أزمة كورونا الحالية ستشكل حدثا مفصليا في تاريخ العلاقات الدولية، وستؤدي إلى إحداث الكثير من التغييرات في النظام الدولي، فكما أن النظام الدولي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عرف بنظام يالطا، وأن النظام الدولي لفترة ما بعد لحرب الباردة عرف بنظام مالطا، وأن السبب في تلك التسميات كان هو نظرا لأهمية الدور الذي لعبه اجتماعا يالطا ومالطا في التمهيد لقيام هذين النظامين الدوليين، وهو المنطق نفسه الذي استند إليه بعض مؤرخي العلاقات الدولية في اعتبارهم أن هناك نظاما دوليا ثالثا مختلفا بشكل كامل عن النظامين السابقين، هو النظام الدولي لما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن النظام الدولي القادم مهما كانت تسميته سيكون في حقيقة الأمر وبكل المقاييس هو نظام مابعد كورونا، نظرا لكون وباء كورونا سيكون هو العامل الحاسم في قيام هذا النظام الجديد الذي سيتأسس،والذي قد يأخذ تأسيسه وقتا طويلا، وهو نظام لازال من المبكر الحكم على الشكل الذي سيكون عليه، وما إذا كان سيكون نظام ثنائية قطبية، بقيادة أمريكية صينية مشتركة، بحيث تأخذ فيه الصين مكان الاتحاد السوفيتي السابق في نظام يالطا، أم انه سيكون نظاما متعدد الأقطاب بقيادة صينية أمريكية أوروبية مشتركة، أو نظاما متعدد الأقطاب لكن بقيادة صينية أمريكية هندية مشتركة، أم أنه سيكون نظاما أحادي القطبية على غرار نظام مالطا لكن بقيادة صينية هذه المرة، وعلى أي فإن الأمر الذي بدا شبه مؤكد حتى الآن هو أن الصين ستلعب دورا محوريا ومركزيا وبالغ الأهمية في هذا النظام، خاصة أن الصين تبدو حتى الآن من أكبر الرابحين من أزمة كورونا حتى الآن، كل هذه المعطيات تجعل من أزمة كورونا معطى مختلفا تماما عن ماسبق من أحداث وأزمات وكوارث عالمية، دون أن ننسى معطى آخر غاية في الأهمية وهو أن كل الكوارث والأزمات الأخرى السابقة كان من الممكن بطريقة ما وفي مرحلة من مراحلها بطريقة ما التنبوء بمآلاتها أو توقع تواريخ لنهايتها وبناء استراتيجيات للتعاطي معها على هذا الأساس، وانطلاقا من ذلك فقد تمكنت القوى العظمى في السابق دائما من التعامل مع تلك الأزمات والكوارث وتدبيرها بطرق معقلنة تكون في مصلحة تلك القوى كما حصل مع الولايات المتحدة على سبيل المثال في الحربين العالميتين الأولى والثانية وكما حصل مع الإتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، لكن الوضع يختلف تماما مع ما يقع حاليا في ظل أزمة وباء كورونا الحالية، إذ أن هذه الأزمة لا تتيح أبدا مثل هذه الإمكانية للتوقع، وهذا ما جعل جميع دول العالم حتى الكبرى منها تفشل في توقع مسارات ذلك الوباء، والتوقع بما سيحصل لها معه حتى على المدى القريب جدا مثل أسبوع واحد أو مجرد أيام، ويعود السبب في غياب إمكانية التوقع تلك إلى عاملين اثنين، الأول هو أن فيروس كرونا مختلف تماما عن ما سبقه من فيروسات وأوبئة وأمراض عرفها العالم طوال العقود الأخيرة، مثل: جنون البقر وسارس وانلفلونزا الخنازير وانفلونزا الطيور والإيبولا وغيرها، ذلك أن أياً من هذه الفيروسات والأوبئة لا يمكن مقارنته مع كورونا، لا من حيث سرعة انتقال العدوى ولا من حيث القدرة على الانتشار، ولا من حيث السرعة الكبيرة التي يغير بها هذا الفيروس سلوكه، مما يضع المزيد من العراقيل أمام مختلف الجهود التي يقوم بها العلماء والأطباء في عدد كبير من دول العالم من أجل تقديم معرفة علمية حول هذا الفيروس تعين على محاصرته والقضاء عليه، وقد ظهر ذلك جليا من خلال العدد الكبير من المعلومات التي تم تداولها من قبل العلماء والأطباء في مختلف بلدان العالم حول هذا الفيروس وثبت فيما بعد أنها معلومات مغلوطة وغير دقيقة، ومن الأمثلة على ذلك النوع من المعلومات على سبيل المثال تلك المعلومات التي تم تداولها حول فترة حضانة الفيروس وأنها لا تتجاوز 14 يوما، وكذلك المعلومات التي تم تداولها حول أن عدوى فيروس كورونا لا تنتقل إلى الأطفال، وأن هذا الفيروس لا يشكل أي خطر على الشباب وصغار السن، وكلها معلومات أثبتت التجربة أنها كانت معلومات مغلوطة وغير دقيقة، ففترة الحضانة تبين أنها قد تمتد إلى أكثر من 14 يوما، كما أن عدوى الفيروس قد انتقلت إلى الكثير من الأطفال في العديد من بلدان العالم، كما أن الفيروس حصد أرواح عدد كبير من الشباب وصغار السن.
2ـ الجيوش وحدها لا تكفي
طوال عقود خلت ظل الشغل الشاغل لكل القوى العظمى وغيرها من القوى المؤثرة في الساحة الدولية هو الأخذ بأسباب القوة بأشكالها المختلفة، وخاصة القوة العسكرية، التي تم التركيز عليها بشكل كبير بل ومبالغ فيه، فوصلت نسب الإنفاق العسكري إلى أرقام غير مسبوقة، وأصبحت الدول تتكالب بشكل جنوني على زيادة حجم ونوعية مواردها العسكرية، ظنا منها أنها بذلك ستحقق الأمن لنفسها، وتضمن البقاء، فمن سباق التسلح الذي حصل في أواخر القرن التاسع عشر بين بريطانيا وفرنسا وروسيا، مرورا بسباق التسلح الذي حصل في مطلع القرن العشرين وتحديدا قبل الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا وبريطانيا، والسباق الآخر الذي حصل بين قوى دولية عديدة، أهمها: ألمانيا واليابان وبريطانيا وروسيا خلال حقبة مابين الحربين، وصولا إلى أشهر سباق للتسلح وهو الذي حصل في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وبلغ أوجه لاحقا فيما عرف بحرب النجوم، وهو السباق الذي عد فيما بعد أكبر وأغلى سباق للتسلح في التاريخ، خلال ذلك كله وأثناء ذلك كله بدا أن دول العالم لن تكف عن اللهاث وراء أنواع الأسلحة والسعي لجمع أكبر قدر منها، كما بدا أن تكديس الأسلحة أصبح يتم فقط من أجل إشباع شهوة جمع السلاح وإرضاء للمجامع الصناعية العسكرية أكثر منه بدافع من حاجيات حقيقية، وقد جاءت أزمة كورونا الحالية لتكشف أن كل تلك الأسلحة الهائلة التي تمت مراكمتها طوال عقود طويلة وأنفقت عليها مبالغ باهظة تصل إلى بلايين الدولارات لم تجلب للدول التي تمتلكها مزيدا من الأمن بل وعلى العكس من ذلك جعلتها أكثر هشاشة، وكانت هذه الدول ستكون أكثر قوة وقدرة على مواجهة الوباء لو أنها أنفقت أجزاء معتبرة من هذه المبالغ على البحث العلمي أو على تطوير أنظمتها الصحية.
* أستاذ جامعي وباحث في العلوم السياسية من موريتانيا
تعليقات الزوار ( 0 )