على الرغم من الأهمية الشارطة للعنصر البشري كأثمن رأسمال منتج في كل استثمار اجتماعي، فإن المسؤولية الفكرية والأخلاقية لنقد ذاتي موضوعي وصريح، تقتضي من دوائر صناعة القرار الإعتراف بواقع مفاده أن مشاريع وخطط وتوجهات التنمية في مجتمعنا، قد كان من بين أخطائها القاتلة تهميشها وتغييبها لدور ومكانة وقيمة الرأسمال البشري على مستوى الإمكان والتمكين (أضف إليها التهجير القسري للكفاءات الوطنية: خبير اللقاحات الدكتور منصف السلاوي نموذجا)، فظلت بذلك عمليات التنمية الشاملة في مجملها، مشاريع متخبطة، معاقة، معطلة وغارقة في بؤس الدوران المتكرر في الحلقات المفرغة و التفكير المستمر من داخل الصندوق. علما أن الطريق الوحيد لمواجهة التحديات الطارئة والجارحة للأنساق والبنيات في الزمن المعاصر يمر من بوابة التكوين والبحث العلمي. زيادة على أن مفهوم الأمن الاستراتيجي للدولة أصبح مرتبطا بشمولية القوة التي تستند في إحدى عناصرها على القوة العلمية والقوة التكنولوجية إضافة إلى القوة الإجتماعية. فالتعليم والتنمية نظامان متلازمان؛ مخرجات أحدهما هي مدخلات للآخر…وتجويد ثنائية التكوين والبحث العلمي يساهمان في زيادة الناتج القومي الإجمالي (GNP)، ويرفعان من نصيب الفرد داخل المجتمع. كما أن محصلة نتائج البحث العلمي تعتبر من بين العوامل المؤثرة على كفاءة وفعالية أي نظام اقتصادي على مستوى جودة مدخلاته.
في هذا السياق، فإن الحديث عن منظومة البحث العلمي هو حديث عن مرتكزات أساسية تطال مستويات متعددة نذكر منها الدقة في التصور والوضوح في منهجية الإعمال وإبراز الخصوصيات والقدرات الفكرية والعلمية في إيجاد سيناريوهات الحلول الواقعية وليس التغني بالترتيب العالمي ومراكمة منشورات بالأداء لا أثر لها ولا إسقاط إلا للترقية الشخصية والإسترزاق بسيرة ذاتية لا سند لها أو قيمة مضافة لواقع مهني مأزوم. من هنا يفترض الإجابة عن سؤال لماذا نجري البحوث العلمية ونقدم مشاريع في هذا الشأن؟ إذا لم يكن لحل مشكلات ومعضلات سوسيو-اقتصادية قائمة “كوباء كورونا”، أو لتجلية الغموض في مجالات حيوية أو الإستجابة للتحديات المعرفية، أو لسد الحاجات العلمية والتقنية والتكنولوجية….إلخ. كل هذا من خلال جهد منظم ومسدد في استقصاء الظواهر قيد الدراسة بهدف إدراكها على حقيقتها وفق خطوات منطقية مترابطة (منهج الإستقراء والإستنباط).
إننا نقول بضرورة خيارات جديدة وواضحة ما بعد كورونا (أمام كثرة الندوات المجانية والخرجات الإعلامية المُجانِبة للصواب في منصات كوفيد19)، خيارات تستمد قوتها وعناصرها من السياق العام لثقافة الشراكة الوطنية والنظرة التفاعلية لقضايانا الجوهرية بكل خصوصياتها وتعقيداتها والرابطة بيت اتساع الحرية الفكرية/الأكاديمية ومجال التدبير المشترك وضمان الحقوق المهنية وتقليص دوائر الإقصاء والتهميش وتأهيل النسيج الجامعي ما بعد الحجر والحظر بما يساعد على تفعيل دور الجامعة وتمكينها من أدوات العمل والتخطيط والهندسة وليس تنزيل قرارات جاهزة من ندوة الرؤساء/الشعراء. كل هذا تحقيقا لأهداف التنمية في إطار سياسة التعاقد الوطني على أن يقع هناك تحول في العقليات غير المسؤولة وفي العناصر الأخرى المكونة للمحيط (إدارة، مقاولة، جهة…إلخ) والخروج من المنظومة الموجهة إلى نظام تنافسي مفتوح لا إكراه فيه أو استرزاق إيديولوجي ولا إعتبار إلا للكفاءة العلمية والمردودية التربوية والعطاء الفكري واحترام القيم الأخلاقية حتى يتسنى لنا القطع بشكل نهائي مع أساليب الفوضى وفيروس العقول الفارغة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ينبغي مساءلة مركز (CNRST) عن كيفية انتقاء المشاريع الوطنية والتي لا تخلو من الهمس في الأذنين مع الإعلان عن عودة قارئة الفنجان إلى واجهة مشاريع البحث العلمي والمساس بمصداقية “ميزانية كوفيد“. في الختام، نجد أنفسنا مضطرين مرة أخرى بدون ملل أو كلل إثارة سؤال الجدوى والإمكانية في مقاربتنا لمنظومة البحث العلمي من خلال احترام ومراعاة المكونات والرافعات التالية :
- محرك للبحث العلمي مع وجود إرادة سياسية وحاجة وظيفية
- مورد بشري للقيام بالبحث في وضعية مستقرة
- أدوات مهنية للإشتغال
- قاعدة معلومات متوفرة
- مصادر متنوعة للتمويل
- هيكل تنظيمي بصلاحيات تتناسب مع المهام والأدوار
- أنظمة للتقييم والجودة والمتابعة السنوية
- مقتضيات قانونية ومساطر مرنة كما هو الحال في الجامعات الخاصة
- آليات إجرائية ضابطة ومحفزة
- برامج وطنية لتطوير كل أشكال البحث التربوي/العلمي/التكنولوجي
- تثمين حقيقي بعد التدقيق لمنتوج البحث العلمي
- اعتماد الترجمة والنشر والتوزيع
- تشبيك وشراكات مؤسساتية
- ميثاق مهني أخلاقي
- ذكاء ومراكمة للعمل الجماعي
- الحكامة في تدبير الصندوق الوطني الخاص لدعم البحث العلمي والتنمية التكنولوجية
- إعفاءات ضريبية على أدوات ووظائف الأبحاث العلمية
- وقف عملية قرصنة وظيفة البحث العلمي من طرف جمعيات رسمية تحظى بدعم رسمي دون مساءلة أو تدقيق لأعمالها إلا ما كان في مزاحمتها للميزانيات والمشاريع المخولة للجامعات الوطنية.
*كلية العلوم – جامعة محمد الخامس الرباط
تعليقات الزوار ( 0 )