على سبيل التقديم
تحتل دراسة التحول والتغير الاجتماعي مكانة مهمة ضمن علم الاجتماع منذ نشأته مع أوغست كونت الذي ميز داخل هذا التخصص الجديد بين الستاتيكا الاجتماعية التي تدرس المجتمع في حالة الثبات والاستقرار، والديناميكا الاجتماعية التي تدرس المجتمع في سيرورته وتغيره من منطلق أن المجتمعات تخضع لمنطق تطوري يتأسس على قانون المراحل الثلاث كما أوردها أوغست كونت.
ليس الهدف من هذا الغوص في البدايات الأولى لعلم الاجتماع هو شرب الكوثر في جماجم الموتى، بتعبير الأستاذ بنسالم حميش، بل الهدف الأساسي هو ابراز أهمية دراسة التحولات الاجتماعية الذي تبلور من خلال سوسيولوجيا التغير الاجتماعي. وقد اهتم السوسيولوجيون الأوائل برصد مظاهر التغير في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية وعلى رأسها الحياة الدينية التي تم تناولها من طرف أب السوسيولوجيا ايميل دوركايم من خلال كتابه الأشكال الأولية للحياة الدينية، الذي نخلص من خلاله الى كون التصورات الدينية تصورات جمعية تعبر عن وقائع جمعية[i].
يبدو اذن أن موضوع الدين قديم حديث، فهو قديم كموضوع بدأ مع الرواد الأوائل في السوسيولوجيا وجديد من حيث الإشكالات التي يطرحها وطرق تناوله. والكتاب الذي نحن بصدد التقديم له يندرج في هذا الإطار، فهو يؤسس لسوسيولوجيا التغير والتحولات الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى يضع اللبنة الأولى لسوسيولوجيا الاعلام الديني بالمغرب كتخصص حديث يهتم بدراسة التأثير الذي تمارسه القنوات التلفزيونية أو ما يسمى بالإعلام التقليدي والاعلام الحديث المتمثل في شبكة الأنترنيت على الحقل الديني والتغيرات التي تمس الممارسات الدينية بشكل يؤدي الى ظهور أشكال جديدة من التدين كالتدين الفردي.
ان الكتاب الذي نحن بصدد قراءته يمثل مختبرا حقيقيا للوقوف على أهم التحولات التي شهدها الحقل الديني وتحول القيم المرتبطة به وكذا تمثلات الشباب للدين، كما أنه يمثل أرضية خصبة لإثارة العديد من التساؤلات المرتبطة بالدين والتدين والقيم الدينية.
في دلالة مفهوم القراءة
يمثل هذا المقال اللبنة الأولى في اتجاه تقديم قراءة لكتاب الباحث رشيد جرموني، وهو بمثابة مقدمة لهذه القراءة لأنه سيركز على الجوانب التقنية في هذا الكتاب، هيكلته، التعريف بصاحبه وإثارة أهم القضايا التي عالجها الكتاب. وهو اللبنة الأولى لأن هذه القراءة ستكون عبر أربع محطات أساسية سترافقكم خلال هذا الشهر الفضيل ويمثل هذا المقال المحطة الأولى.
وقبل الشروع في تقديم محتويات الكتاب لابد أولا من وقفة دلالية ومنهجية حول مفهوم القراءة، فما دلالة المفهوم؟
تمثل القراءة عملية تفاعلية بين الذات والنص المقروء، وهي عملية يوظف فها القارئ مجموعة من المهارات من أجل استيعاب وفهم النص المقروء. ويستوجب فعل القراءة التوقف عند مرحلتين أساسيتين: الأولى ترتبط بالإمساك بمنطوق النص من أجل فهمه واستيعابه والثانية ترتبط بمحاولة فك رموز ما كتب وذلك بالوقوف على أبعاده ودلالاته وتفترض هذه المرحلة التأويل، وبالتالي يمكن القول بأن القراءة التي سنعتمدها تتجاوز مستوى الوصف البسيط لمحتويات الكتاب وتلخيص مضامينه الى مستوى التحليل والتأويل الذي سيمكننا من تفكيك منطوق النص الذي أنتجه السوسيولوجي، والتأويل نستعمله هنا بالمعنى الأنثروبولوجي والسوسيولوجي للكلمة.
أهمية الكتاب
الحديث عن أهمية الكتاب لا يمكن فصله عن سياق انتاجه، لأن المعرفة تتحدد بسياقاتها. وقد تم اخراج هذا الكتاب الى حيز الوجود في ظرفية عرف فيها المغرب مجموعة من التغيرات مست مختلف جوانب الحياة الاجتماعية بما في ذلك المشهد الديني، الذي تميز بتراجع حركات الإسلام السياسي وظهور فاعلين دينيين جدد نتيجة ظهور وانتشار وسائل التواصل والاعلام وخصوصا القنوات التلفزيونية التي أصبحت تلعب دورا مهما في التوعية الدينية، خاصة بعد ظهور مجموعة من القنوات التلفزيونية ذات الطبيعة الدينية كالمجد والناس… فأصبحت هذه القنوات مؤسسة أساسية من مؤسسات التنشئة الدينية للأفراد الى جانب المؤسسات التقليدية التي بدأت تفقد تدريجيا مكانتها.
ومع ظهور الأنترنيت الذي أصبح وسيلة أساسية لإنتاج المحتوى الديني ونشره، غدا من الملح جدا التوقف عند التأثير الذي يمارسه الاعلام الديني على تمثل الشباب للدين وتأثيره على القيم الدينية وعلى أشكال التدين و في هذا السياق يندرج الكتاب الذي عمل على دراسة التحولات التي عرفها الدين و التدين و ما يرتبط بهما من قيم في المجتمع المغربي منطلقا من دراسة ميدانية ، فالأمر لا يتعلق بمجرد محاولة تأملية حول الموضوع، بل بدراسة نبعت من إشكالية حقيقية أملاها الواقع الديني واستندت الى فرضيات استوفت كل معايير العلمية والدقة والموضوعية.
ومن تم فأهمية الكتاب مستمدة من راهنية الموضوع وجدته، ومن طبيعة المقاربة المعتمدة التي زاوج فيها الباحث بين المقاربة النظرية للموضوع وذلك بالتوقف عند أهم النظريات السوسيولوجية في مجال سوسيولوجيا الدين والاعلام وبين المقاربة الميدانية وذلك بالنزول الى الميدان للتحقق من الفرضيات التي وجهت الدراسة متوسلا بتقنيات تنتمي الى المناهج الكمية والكيفية إيمانا منه بالتكامل الموجود بينهما متجاوزا الجدل الكلاسيكي حول هذه المناهج.
قد يبدو لغير المتمرس والمختص أن الحديث عن الدين و القيم الدينية موضوعا مستهلكا، غير أن الأمر ليس كذلك، لأن ما يعطي لبحث أو دراسة حول الدين قيمتها العلمية و المعرفية هو طبيعة المقاربة و طبيعة الإشكالات المطروحة، فيجب على السوسيولوجي أن يتقن طرح الأسئلة فهذه القدرة هي ما يضفي صفة العلمية على دراسته و في هذا السياق يقول الإبستيمولوجي الفرنسي غاستون باشلار في حديثه عن المعرفة العلمية: “ينبغي قبل كل شيء أن نعرف جيدا كيف نطرح المشاكل… ان معنى المشكلة هو ما يمنح العلامة الدالة على التفكير العلمي الصحيح”[ii] و الدراسة التي ضمنها الباحث هذا الكتاب تنم عن تمكنه من آليات البحث السوسيولوجي بدءا من لحظة الاستشكال و مرورا بالدراسة الميدانية و انتهاء بصياغة الخلاصات و الاستنتاجات.
محتويات الكتاب
يتألف الكتاب من أربعة فصول توزعت على الشكل التالي:
فبعد التقديم وبسط الإشكال الذي انطلقت منه الدراسة تم التطرق إلى المحاور التالية:
الفصل الأول: الاعلام الديني: المفهوم والسياق
الفصل الثاني: الاعلام الديني وسوق الاستهلاك الرمزي
الفصل الثالث: الدعاة الجدد، وموجة التدين الفردي
الفصل الرابع: الأنترنيت والتدين الواقعي والافتراضي
ثم انتهى صاحب الكتاب بخلاصة تضمنت أهم ما توصل اليه من استنتاجات.
سنعمل من خلال المقالات اللاحقة على الوقوف عند كل فصل على حدة، وذلك بتلخيص مضمونه والانفتاح على القراءات الممكنة في ظل المستجدات التي عرفتها سوسيولوجيا الدين، وكذا سوسيولوجيا الاعلام الديني. ان الهدف من هذه الوقفة هي الاقتراب من النموذج التفسيري الذي اعتمده الباحث من أجل مقاربة الظاهرة الدينية بالمغرب ورصد امكانياته التفسيرية وحدوده. ما يعني أننا سنخصص لكل فصل من فصول هذا الكتاب مقالا يفصل فيه القول انطلاقا من قراءة تحليلية وتأويلية لما جاء فيه.
نخلص من خلال ما سبقت الإشارة اليه أن كتاب الدكتور رشيد جرموني يعتبر مرجعا لا غنى عنه في سوسيولوجيا الدين والتغير الاجتماعي، فهو مساهمة متميزة سواء على مستوى التناول والمقاربة المعتمدة، أي ما يخص الجانب المنهجي أو على المستوى النظري. فهو عبارة عن دراسة سوسيولوجية متح فيها المؤلف من الميدان ما مكنه من الإحاطة بمختلف جوانب الموضوع، وكلنا نعلم أهمية الميدان في الدراسات السوسيولوجية فهو بمثابة المختبر بالنسبة للسوسيولوجي.
وما يزيد من قوة هذا العمل أن الباحث انطلق من خبرته في مجال البحث السوسيولوجي وكباحث في سوسيولوجيا الدين والتحولات الدينية، فلا يخفى عل أحد أنه أنجز أطروحة الدكتوراه حول موضوع الشباب وتحول القيم والاتجاهات والممارسات الدينية. الشيء الذي مكنه من تكوين رصيد معرفي مهم كفيل بجعل مساهمته المعرفية على درجة كبيرة من الأهمية والمصداقية.
يتبع…
*باحثة في سوسيولوجيا الأديان
[i][i] ايميل دوركايم، الاشكال الأولية للحياة الدينية: المنظومة الطوطمية في أستراليا، ترجمة رندة بعث، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الطبعة الأولى يوليو 2019، ص 29
[ii] غاستون باشلار، تكون الفكر العلمي، فران، 1980، ص 14
مقال جميل ومفيد، أنتظر التتمة. بالتوفيق