إن رأس مال الراعي البدوي هو غنمه، خاصة المنتمي للقبائل عربية النسب في أقصى شرق المملكة المغربية، فطبيعة الشرق لا تسمح لهؤلاء القبائل بمزاولة الأنشطة الزراعية بتاتا، ويبقى الرعي هو وسيلتهم الوحيدة لكسب القوت، لهذا فعلاقة الرعاة بالغنم وحيواناتهم هي علاقة أسرية يعتبرون شياههم كأبنائهم خصوصا أن للمنطقة مناخا متقلبا جافا وصحراويا.
تستفيد الهضاب الشرقية من المواسم الممطرة فيكثر الزرع وأعشاب الأغنام المفضلة كالشيح والعرعار وفليو وغيرها، فترتعي المواشي ويكثر نسلها ويستفد صاحب الخيمة لأن كبشا إضافيا يعتبر رزقا من الله، يتم بيعه بأثمنة مناسبة تتيح لهم ميزانية معقولة تستخدم لتعليم الأبناء، أو تجهيز بناتهم لاستقرار في خيم أزواجهن.
في أواخر التسعينات تبنى شيوخ القبيلتين فكرة إرسال أبنائهم لديار المهجر عن طريق شراء عقود عمل الفلاحة الموسمية، ويرجع السبب في انتشار هذه الفكرة؛ توالي سنوات الجفاف مما نتج عنه نقص مردود المجال الرعوي، فقد استطاع الشباب حديثا إقناع شيوخهم بضرورة تدبر أموال الهجرة لهم، خاصة عند رؤية التحسن الملحوظ لأقرانهم الذين وفروا لأهاليهم فرصة التخلي عن مضنكة العيش، فاشتروا لهم بيوتا داخل المدن المجاورة كبوعرفة ووجدة وجرادة فتخلى أغلب الرعاة عن أغنامهم وخيمتهم وسكنوا الدور الحديثة المزخرفة بالجبص والمبلطة بالزليج الأوروبي.
والظاهر أن الهجرة أصبحت مؤخرا هدف النساء أضا من القبيلتين، من المطلقات والأرامل، لأن الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات (Anapec)، أتاحت مؤخرا لنساء المغرب المهمشات فرصة العمل في البيوت البلاستيكية، المخصصة لإنتاج الفراولة بالجنوب الإسباني فتركت النساء خيامهن وهاجرن بغية العمل.
رغم ما تعانينه من أشكال الاضطهاد والتحرش من طرف المشغلين الأجانب، والأجر الزهيد وساعات العمل الطويلة، إلا أن بعضهن أصررن على الذهاب وهن حوامل لإنجاب المولود في التراب الإسباني ليحصل على الجنسية الإسبانية، أما شق آخر من عناصر القبيلة خاصة (بني كيل)، فقد تشبثوا بتراثهم الرعوي وفضلوا البقاء والهجرة داخل ربوع الوطن ملاحقين المراعي الخضراء، والسهول المزدهرة بالأعشاب، فانتقلوا حاملين متاعهم وخيمتهم من قرية إلى أخرى ومن مجال إثني لأخر، حتى أصبحوا ملمين بثقافات متنوعة متقنينين للغات متعددة، فبعضهم أضحى يتكلم تشلحيت وتاسوسيت بطلاقة.
أما عن الكيفية التي استعملوها في الترحال فقد وفرة لهم المخدرات إمكانية شراء الشاحنات، كما حصلوا على رخص لقيادتها والانتقال في الوطن، فأضحت المشكلة التي تعرقل نشاطهم خلال حركاتهم الأولى هي اللصوصية، خاصة خلال أيام عيد الأضحى وفي أسواق المدن الكبرى كالدار البيضاء وطنجة… أو عند استقرارهم في بوادي المدن الكبرى التي يكثر بها الزرع، فتردد عليهم في العديد من المرات زوار الليل من “الفراقشية” وهم لصوص متخصصون في سرقة البهائم وقطاع الطرق، وكذلك يعانون من إزعاج السكان المحليين فهم دائما ما يشتكونهم للمخزن بدعوى أن أغنامهم تتلف زرعهم أو تأكل كل العشب، فهم يزاحمون بهائمهم فلا يبقى لهم شيئ من الكلأ.
ويبدو أن ما يدفع السكان المحليين لتلك الشكاوى، هي الغيرة، لأنهم يعلمون أن رعاة المشرق أمهر منهم في فنون الرعي فهو حرفتهم أبا عن جد، ولأنهم علموا بثرائهم، خصوصا اأن ثمن الكبش “الكحيلي” أغلى في أسواق الغرب ولحمه مفضل لدى المستهلك المغربي عامة، فهو من أجود اللحوم داخل الوطن يقتات فقط على العشب، فرعاة الشرق ينبذون فكرة التعليف عكس كسابة الغرب الذين ينفقون أموالا طائلة حولا كاملا لتسمين أغنامهم تهيأ للعيد، فربما يضيفون ربحا أو يخسرون في هذا الاستثمار، عكس الرعاة القادمين من الشرق لا ينفقون أموالا في التعليف والتسمين ويتبعون فقط المراعي، وبتالي فهم الرابح الأكبر داخل المجالات الرعوية الغربية؛ كما أنهم يصبرون على قساوة العيش وشقاء الحياة فهم لا يتبنون ثقافة الاستهلاك ككسابة الغرب فأكلهم يقتصر في بعض الأحيان على وجبتين، وقد خصصوا بعض ميزانيتهم لزيادة عدد الرجال الأقوياء وبتالي تخلصوا من اللصوص خاصك الفراقشية المدفوعين غالبا من سكان المناطق التي يحطون بها خيمهم.
طالب باحث ماستر التعدد اللغوي والتلاقح الثقافي في المغرب
تعليقات الزوار ( 0 )