Share
  • Link copied

فيضان المعرفة واضمحلال الوعي

يحصل في لحظات تاريخية تتميز بالقلق الإنساني المتصاعد، أن تفقد المعرفة قيمتها في إضاءة طريق الإنسان وتنمية وعيه، ذلك أن المعرفة في هذه اللحظات تَكُف عن دورها في التنوير وتتحول إلى وسيلة للتشويش والتجهيل أو صناعة مزيد من الجهل عن طريق تنمية المعرفة المزيفة التي أصبحت رأسمالا اقتصاديا وخططا سياسية وبرامج ثقافية.

هناك حالة اليوم من التردد والخوف تنتاب الإنسان تدفعه ليصبح مُدمنا للكثير من القصص والروايات “العلمية” التي يحكي أصحابُها أخبارا متضاربة عما يُهدد الإنسان ويهدد مُستقبله، عن الأمراض وعن اللقاحات، عن الإنسان المنتهية صلاحيته، أو لنقل عن نهاية الإنسان وما بعد الإنسان، روايات يُدمنها الإنسان المسلوب الوعي لا من أجل فهم لما حوله، وإنما فقط من أجل الاستقواء بها في جولات مضغ الكلام مع الآخرين، بات الكل يُحاجج بروايات علمية عن مستوى الفراغ الذي صنعته وسائل الاعلام التي تلفنا شبكاتها من تحتنا ومن فوقنا إلى الحد الذي جعلتنا نسبح فيها كما لو كنا كائنات بلا مركز وبلا مرجعية.

كثرة المعلومات من حولنا والتي يعبر عنها البعض بفيضان المعرفة، مُرهقة للذهن وللروح، هي لا تعني أي تقدم في وعينا تجاه الذات والآخر والطبيعة، بل بالعكس تجعلنا هذه المعرفة المُتدفقة والمختلطة عن كل التفاصيل أكثر عجزا عن اتخاذ موقف سليم ومناسب، تجعلنا أكثر انكماشا وضعفا وأكثر إعاقة عن النهوض في ميادين الإحساس والشعر والتأمل، ذلك أن طوفان المعرفة أغرق الكائن الإنساني في مزيد من التيه وضياع البوصلة، فلم يعد ثمة حساسية تجاه العلاقة بين المعرفة التي يحققها الإنسان عن العالم وبين استخدامات هذه المعرفة ذاتها وتسخيرها في تعديم الإنسان والمتاجرة بآلام الإنسان.

في الجزء الرابع من “اليوميات” لتولستوي، يقول الروائي الروسي :” ليس الجهل هو جذر الشرور وصنوف المعاناة، بل هي المعرفة المزيفة، أي الخداع، يجب أن ينتهي البيان بالدعوة إلى تعاون الجميع من أجل القضاء على الخداع”.

لابد أن الأمر لا يتعلق بطبيعة المعرفة في ذاتها، وإنما في الوعي المشوش المغشوش المصاحب لها الخائف المرتعب من الواقع والقلق بشأن المستقبل، المشكلة أيضا في استخداماتها الرسمية السيئة من أجل تكبيل حرية الإنسان وإعادة الإنسان إلى عهود الرقابة والضبط المظلمة، فالدول المتخلفة على الخصوص باتت تستند في إقرار سياسات عدمية تنتهك حقوق الإنسان وحقوق المواطنين على ما قاله “الخبراء” وما قرره “العلماء” رهن الإشارة، فقدنا المعنى الحقيقي الذي كان يبنيه الإنسان بخياله ومواهبه وإبداعه، وأصبحنا إزاء “المعنى” المفروض الذي تفرضه قوة الدولة وقوة السلطة.

أصبحنا جميعا محكومين باستهلاك المعرفة المختلطة التي تتحكم فيها  شركات اقتصادية ضخمة بضاعتها “محتوى إلكتروني” مُوجَّه، تتحكم فيها نخبة خبيرة في صناعة الرأي العام وفي جذب الخيوط لتشكيل التوجهات نحو مزيد من الهبوط إلى قاع الاستعباد كما يخبرنا سوندرز في كتابه “من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية”.

Share
  • Link copied
المقال التالي