لقد تنامت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة، الإساءة إلى الديانات لا سيما الدين الإسلامي والتعرض إلى رموزه ومقدساته، وذلك على شبكات الانترنت خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يولد ردود أفعال متباينة، وفتح نقاش في هذا الشأن حول حرية التعبير وحدودها، يصل إلى حد بث خطاب الكراهية والعنف بين الأطراف ذات التوجهات المختلفة والمتناقضة.
وقد أثار شريط فيديو تم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي ظهر فيه الممثل المغربي رفيق بوبكر، يستهزئ فيه بشعائر الدين الإسلامي بعبارات وصفت بالنابية والمشينة. جدلا وغضبا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي داخل المغرب وخارجه، فهناك من طالب بمحاسبته ومتابعته بمقتضى الفصل 267 من القانون الجنائي، بينما التمس له آخرون العذر والصفح على زلته نظرا للظروف غير الطبيعية التي كان يتواجد فيها وغياب وعيه أثناء تسجيل الفيديو، وهناك من اعتبر ذلك ممارسة لحرية الرأي والتعبير.
ومباشرة بعد اطلاع المصالح الأمنية على محتوى المنشور الرقمي وتوصلها بشكايات ووشايات من عدة مواطنين بشأنه، فتحت الشرطة القضائية بحثا تمهيديا في الموضوع تحت إشراف النيابة العامة المختصة، لتحديد الأفعال الإجرامية المنسوبة للممثل المغربي رفيق بوبكر، بتهمة الإساءة للدين الإسلامي والمس بوقار العبادات، والاحتفاظ بالمعني بالأمر تحت تدبير الحراسة النظرية الذي أمرت به النيابة العامة المختصة، وذلك للكشف عن جميع ظروف وملابسات وخلفيات ارتكاب هذه الأفعال الإجرامية، وكذا تحديد المتورطين في تصوير وبث ذلك المحتوى الرقمي بواسطة الأنظمة المعلوماتية، ليتم إطلاق سراحه بعدما قررت النيابة العامة لدى المحكمة الابتدائية الزجرية الدار البيضاء عين السبع متابعته في حالة سراح بكفالة مالية قدرها 5000 درهم.
وفي نفس السياق نشرت الناشطة الحقوقية وأستاذة الفلسفة المثيرة للجدل مينة بوشكيوة على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي تدوينة تحدثت فيها عن الحياة الخاصة للرسول (ص) وقد ربطتها بظاهرة “رغبة الشباب بالزواج بنساء أكبر منهم سنا شريطة أن يكن ميسورات الحال، اقتداء بالرسول محمد (ص)، الذي كانت أول زوجاته خديجة تكبره سنا” واضعة مقارنة بين الرسول محمد (ص) وبين شبان الجيل الحالي الذين يفضلون الارتباط بنساء متقدمات في السن، وهي التدوينة التي أحدثت جدلا ونقاشا واسعا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين انقسموا بين مدافع بحجة الحق في الحرية والتعبير عن الرأي، وبين رافض للفعل بسبب ازدراء الدين الإسلامي والإساءة إلى أهم رموزه، بالاستهزاء بالرسول محمد (ص)، بحيث عمم نشطاء على فيسبوك هاشتاغ “معاقبة لمتطاولة على نبينا” للمطالبة بمتابعة المعنية بتهمة سب المقدسات وإهانة توابث الدولة.
وهناك من ذهب ابعد من ذلك مكفرا لها ومطالبا بهدر دمائها والدعوة إلى قطع رئسها، وهناك من فضل توجيه شكاية في الموضوع إلى النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية بالرباط، بتهمة الإساءة إلى الدين الإسلامي، بواسطة الوسائل الالكترونية، بناء على ذات الفصل 267 من القانون الجنائي، للاستماع إلى المشتكي بها وإحالتها على القضاء من أجل المحاكمة.
وقد أعادت هاتين الواقعتين النقاش إلى واجهة الأحداث حول إشكالية قديمة جديدة، تتمثل في حدود حرية الرأي والتعبير في علاقتها باحترام حقوق الغير وعدم تشويه صورة الأديان وازدرائها والإساءة إليها، فعلى الرغم من كفالة المواثيق الدولية لحرية الرأي والتعبير لكافة الأفراد، إلا أنها لم تترك هذا الحق مطلقا بل وضعت له حدود وقيود، لضمان عدم انتهاك حقوق وحريات الآخرين، وحقهم في اعتناق الدين الذي يرغبون به، واحترام حرمات الأديان وعدم الإساءة إلى المقدسات الدينية وأماكن ودور العبادة.
ويمكن القول أن مناهضة ومنع وتجريم الازدراء والإساءة إلى الدين من الناحية القانونية والأخلاقية أيضا، يجد أساسه من حساسية الموضوع المرتبط بالحد من ازدياد انتشار خطاب ومشاعر الكراهية والتطرف العنيف وإثارة الأحقاد بين البشر، وتوفير فرص التعايش بينهم، وخلق بيئة للعلاقات الإيجابية بين الناس، التي تسودها قيم التسامح والحوار. وفي هذا الصدد أورد العهد الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية، في المادة 19 بعض القيود على الحق في حرية الرأي والتعبير كاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، كما نص في المادة 20 على حظر أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف.
وأمام تنامي ظاهرة الاسلاموفوبيا والإساءة إلى الأديان، وبروز بعض حـالات التعـصب والتمييـز وأعمـال العنـف بمـا في ذلـك الحـالات الـتي تحركهـا كراهيـة الديانات السماوية الثلاثة إضافة إلى الـصورة الـسلبية الـتي تقـدمها وسـائط الإعلام والتواصل الرقمي عن أديـان بعينها، مما يهدد بإعاقة تمتع الأشخاص المنتمين إلى خلفيات عرقية ودينية معينة تمتعا كاملا بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، بحيث أن الحط من شأن الأديان يشكل إهانة بالغة لكرامة الإنسان، والتي تفضي إلى تقييد غير مشروع لحرية الدين لمعتنقيها وإلى التحريض على الكراهية والعنف الدينيين، الذين يمكن أن يؤديا إلى التنافر الاجتماعي وانتهاك حقوق الإنسان، كما أن الإساءة تدخل في إطار السب والشتم والقذف في الطرف الأخر.
وفي ظل الجهود الدولية المبذولة في هذا المجال للبحث عن إجراءات قانونية دولية ملائمة للتعامل مع القضايا المرتبطة بظاهرة تشويه صورة الأديان والإساءة إليها. وانسجاما مع تقارير المقرر الخاص المعني بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب، المقدمة إلى مجلس حقوق الإنسان، التي أكد فيها الخطورة التي ينطوي عليها تـشويه صورة جميع الأديان وضرورة اتخاذ تدابير تكمل الاستراتيجيات القانونية، ودعوة جميع الدول من أجل شن حملة منظمة ضد التحريض على الكراهية العرقية والدينية، تراعى فيها الموازنة بشكل دقيـق بـين الدفاع عن العلمانية واحترام حرية الدين، والإقرار بتكامل جميع الحريات التي تجسدها صكوك حقوق الإنسان المتفق عليها دوليا.
مما دفع بالجمعية العامة للأمم المتحدة خلال دورتها 65 سنة 2010 بناء على تقرير اللجنة الثالثة رقم 456، إلى اتخاذ قرار رقم (224) بمناهضة ومنع تشويه صورة الأديان والإساءة إليها، بكافة الوسائل حتى بالوسائل والشبكات الإلكترونية، بما ينسجم مع حرية الرأي والتعبير، ودون السقوط في التحريض على الكراهية على أساس الدين والمعتقد، والمس بالحقوق الأخرى المكفولة للغير، وحث جميع الدول على القيـام، في إطـار نظمهـا القانونية والدسـتورية، باتخاذ التدابير اللازمة للحد من جميع أعمال الحـط مـن شأن الأديان والتحريض على الكراهية الدينية عموما، وبذل جهود لضمان احترام حرمة أماكن العبادات والرموز الدينية.
وفي هذا الصدد، قضت المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان في حكم تاريخي في 25 اكتوبر 2018، الذي أيدت فيه حكم المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا بالنمسا ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول (ص)، بتجريم هذه الأفعال التي اعتبرتها تجاوزا لحدود الحرية المكفولة للأشخاص، وتدخل ضمن نطاق الإساءة للمعتقدات الدينية والاستهزاء المجرم، كما تعرّض السلام الديني للخطر، معتبرتا الحكم لا يتعارض مع المادة 10 من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، المتعلقة بحرية التعبير.
وانسجاما مع الوثائق الدولية السالفة الذكر، وطبقا لمضمون الفصل 267 من القانون الجنائي فإن ما جاء على لسان رفيق بوبكر في مقطع الفيديو المذكور -المنشور والموجه للعموم عبر قناة اليوتوب- من كلمات وعبارات مستعملة في اللغة العربية والدارجة المغربية يشكل العناصر التكوينية للركن المادي للجرائم المنصوص عليها في هذا الفصل وهي جرائم تندرج في إطار إهانة احد ثوابة المملكة المغربية والإساءة إليها، المتمثلة في الإساءة إلى الدين الإسلامي، (باعتباره من بين الثوابت الجامعة للحياة العامة للأمة المغربية حسب الفصل 01 ودين الدولة حسب الفصل 03 وان الله يندرج ضمن شعار المملكة حسب الفصل 04 من دستور 2011،) وذلك من خلال الاستهزاء بالصلاة كركن من أركان الإسلام والسخرية من قدسية المساجد كدور للعبادة، وإهانة الذات الإلهية التي تسمو عن كل المقدسات الدينية الأخرى.
كما أن تدوينة مينة بوشكيوة المنشورة على الفيسبوك كفضاء رقمي عام ووسيلة لنشر الأخبار والمعلومات وصناعة المحتوى، والتي تتضمن عبارات يمكن أن تفسر على أنها تشكل الإساءة إلى الرسول (ص)، والنيل من احد رموز ومقدسات المسلمين والأمة المغربية التي تدين أغلبيتها بالدين الإسلامي، وبالتالي تكون المعنية من خلال الأفعال المرتكبة قد خرقت مقتضيات المادة 267 من القانون الجنائي ومضمون الدستور والوثائق الدولية ذات الصلة.
وبالتالي فإن مثل هذه الممارسات والأفعال، قد تقود إلى الصدام بين مختلف التيارات التي لا تتقاسم نفس الآراء والتوجهات والمعتقدات داخل المجتمع المغربي، مما يشجع على بروز عناصر وأطراف تسعى إلى نسف الجهود التي بذلتها الدولة، في سبيل نشر قيم التسامح والتعايش والحوار بين الأديان وإقرار السلم والسلام بين المواطنين المغاربة على اختلاف دياناتهم وتوجهاتهم العقدية وأرائهم المذهبية. ذلك أن الإساءة للإسلام ورموزه ومقدساته ستكون له تداعيات خطيرة، على الأمن والاستقرار داخل البلد.
وبالتالي ليس من الصواب الازدراء بالعبادات والطعن في سنن الأنبياء والسخرية من المقدسات والرموز الدينية، واستفزاز مشاعر من يدين بأي من تلك الديانات بدعوى حرية التعبير والرأي، كأساس لتبرير هذه الأفعال والتصرفات المنافية للدين ومبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية ذات الصلة، فليس هناك حرية تعبير مطلقة بدون قيود وشروط، حتى في أكثر الدول الديمقراطية العلمانية ذات المذهب الليبرالي.
غير انه يتم أحيانا إساءة استخدام قوانين الحظر والتجريم ضد الأفراد من قبل بعض الحكومات التي لها سجلات غير مشرفة في مجال احترام حقوق الإنسان، كذريعة للتضييق عن حرية الرأي والتعبير عندما يتعلق الأمر بالقضايا السياسية وتدبير بالشأن العام، أو من قبل الأغلبيات ضد الأقليات، أو من قبل متطرفين دينيين ضد غيرهم من أتباع ديانات أخرى.
وبالتالي فإن اعتماد المقاربة القانونية وفرض المراقبة والعقاب ليست الوسيلة الوحيدة للتصدي لظاهرة الإساءة للأديان، والمس بحقوق وحريات الأخرين، بل يجب أن يقابل ذلك إشاعة قيم التسامح والوسطية والاعتدال واحترام الرأي والرأي الأخر، والتمكين لمبادئ وشروط التضامن والمساواة، ونبذ كافة مظاهر وأشكال التحريض على التمييز والكراهية والازدراء والإقصاء، كسبيل لضمان السلام والأمن والاستقرار وممارسة أفضل لحرية الرأي والتعبير. وبالتالي فان المدخل الأساسي والمناسب للحد من خطاب الإساءة والكراهية لا يكون بالمزيد من الآراء والخطابات المضادة المشحونة بالتعصب، بل بتبني التدابير والسبل التي تؤدي إلى معالجة واستئصال الأسباب العميقة لعدم المساواة بمختلف أشكالها وتجلياتها، والحفاظ على الكرامة الإنسانية.
* باحث في والعلاقات الدولية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس
اشكركم على هذا المقال ،واقول لكم هل من مزيد.تحياتي لكم ولكم مني كل التشجيعات.