Share
  • Link copied

في علاج معضلات الزمان.. الفلسفة الغزالية نموذجاً

من المألوف تصدر نخب علمية وفكرية وفلسفية في كل زمان ومكان، تبعاً لمستحثات الحياة، وتحدياتها المتراكمة والمتجددة، الأمر الذي يستخلص عصارة العقول ويجعل من كل حقبة عنواناً لصيقاً ومصاحباً بإسم أحدهم.

لا يكاد يطرح حديث عن الحركة الفلسفية في العصور الوسطى، إلا ونجد حضوراً مثبتاً للفيلسوف أبو حامد الغزالي، الذي أحسن “الرحلة” الفلسفية، من خلال العمق الفكري، والإلمام الواسع الذي بدا في تفوقه على الكثير من الفلسفات السابقة

و إن المكانة الحقيقية للموائمة الفلسفية الدينية، تظهر في سياقات الاحتدام بينهما، إذ لطالما تقشعت “غنائم” ومنافع من قلب كل محنة فكرية، أو معرفية، أو علمية. وإن صاحب المنهج البارز (الغزالي) أصاب في حل معضلات الجدل القائمة بين العقل والنقل، والذي شاع تأثيره الواسع في التفكير اللاتيني. مما يفرض العودة إلى التفاصيل البارزة في حياة ذلك المؤثر قوي الحضور وبخاصة في الإسلام، إذ برز أبو حامد الغزالي، علماً بين فلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء والصوفية، وأثبت مكانته المتقدمة في ظرفية “ثوران” بركان العلم الكلامي، فاستخدمت ها هنا فلسفته في غمار نقاشات طويلة، والرد على ما استهجنه سيما في محاوراته مع الشيعة بالعقل والدراية، إذ برز بشكل واضح اعتلائه صهوة الفلسفة الدافعة بنقد ما ينوف على عشرين مسألة من مسائل الفلسفة أوردها في مؤلفه: (تهافت الفلاسفة).

وعلى الصعيد الديني، يمكننا القول بأنه تناول المعضلات الكبرى لعصره، فقد أظهر في مؤلفه: (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) بخطوط واضحة كيف يبدو الحكم على من تجاوز الحدود الإسلامية، متناولاً الأصل العقدي كأساس للحكم، دون غيرها في سياق الحديث عن الكفر والردة، وذلك فتح مجالاً آخراً في فلسفته الناضجة التي عبرت بالاختلافات دون أصل العقيدة لمساحة مضيئة من التسامح، على اعتبار الخطأ والمخالفة لا تكفي مبرراً ولا تصح حجة في تكفير الغير. وفي ذات الوقت فقد أغلقت اطروحاته الفكرية باب الحكم الجماعي بأبعاد حاذقة مدركة لأن التعميم لا يكون إلا من عمى البصيرة وقصورها.

إن الحاجة من وجود الفلاسفة، تتلاقى والحاجة الدافعة لوجود الفلسفة ذاتها من تساؤلات وفضول يرافق إرادة الإنسان، دون أن يهدأ وجدانه وعقله بلا إجابة تروي ظمأه، ولذا فإن كل ذي صنعة هو فيلسوف في صنعته، كما هو طبيب في مهارته، فالفلاسفة مثلوا انعكاس الإرادة الجمعية لزمانهم، وكرسوا جهدهم وبذلهم في سياق ذلك، ومنه ما قدمه الغزالي للفقه الإسلامي من “اعتبار المصلحة العامة”،  ومقابلة “صراع النجاة” بطرح رزين للوسائل والكيفيات التي تبني بشخصية المسلم المؤهلات اللازمة للنجاة من النار بعيداً عن الشعارات أو التحزبات المذهبية، وبالتالي فقد انعكس نتاج الغزالي وكأنه لبنة من لبنات مشروع “الارتقاء الحضاري بالإنسان” ومراعاة الأخلاقيات المحتمة في العلاقات الإنسانية، محدداً ضروريات لا زيح عنها من صون   الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فإذا اعتبرناها كذلك، صح قولنا بأن كل ما يؤدي إليها ويحققها هو مصلحة وضرورة عامة.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

Share
  • Link copied
المقال التالي