القضيّة الفلسطينية طال عليها الأمد، وما فتئت تتغلغل في أفئدة وقلوب كلّ المحبّين للحريّة والمتعطّشين للكرامة، والانعتاق في كلّ مكان، من كلّ الجنسيات، والملل، والنّحل، والإثنيات والأعراق. إنّ المحن والأهوال التي عانى وقاسى منها الكثير هذا الشعب لم تثنه قطّ عن تقديم التضحيات، تلو التضحيات لتحرير أرضه السليبة، وَصَوْن كرامته، وإقامة دولته، في خضمّ ما أصبح يُنعت أو يُعرف بأمّ الهموم والعذابات العربية التي حاقت بهذا الشعب منذ ما يُعرف ب: “وعد بلفور” منذ الرسالة التي وجّهها وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر جيمس بلفور بتاريخ الثاني من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يشير فيها إلى دعم الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. مروراً بتقسيم 1947،أو “النكبة” التي أفضت إلى قيام “دولة إسرائيل” عام 1948، وصولاً إلى “النكسة ” عام 1967.
فى ظلّ ما تشهده الأوضاع الراهنة من نزاعات مذهبيّة، ومواجهات أيديولوجيّة وحروب دينيّة وصراعات طائفيّة وخلافات سياسيّة ومساجلات لسنية غارقة في الوحل والضّحالة ! كلّ هذا المخاض العسير، وهذا الأوار المُستعر، الله وحده يعرف ما هي عاقبته، وما هو مآله، ونهايته ومنتهاه. وأخيراً الفراق، والشقاق، والشتات.. إنّها أحداث تاريخية مؤلمة نراها تتوالى نصب أعيننا، ومفاجآت مؤلمة خبّأها القدر للعديد من أبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بغير قليلٍ منهم خارج وطنهم، وبعيداً عن وطنهم ، فانتشروا في بلاد الله الواسعة في المهاجر، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه. ولكنّهم مع ذلك ظلّوا مشدودين إلى أرضهم، متشبّثين بحقوقهم المشروعة.
فقد عملت الصهيونية العالمية ،وليس كلّ اليهود، منذ ذلك الإبّان بدون هوادة، ولا كلل ولا ملل، من أجل القضاء على هذا الشعب وإستئصاله من جذوره وطمس هويّته وتشويه ثقافته ومحو كل أثر له، ومحو حتّى جغرافيته وتاريخه في حملات متواصلة بإستعمال مختلف ضروب الحيل، والدسائس، والخسائس لتحقيق هذه الغايات.
وانطلقت الثورات والإنتفاضات الواحدة تلو الأخرى، وطفق الشعب الفلسطيني في كتابة صفحات جديدة من تاريخه رافعاً رموز نضاله الكوفية الفلسطينية المرقّطة، أوالمنديل الفلسطيني، وغصن الزّيتون،فأذهل العالم، وأعاد إحياء هويّته وشخصيته وجذوره وذاكرته التاريخية والثقافية والتراثية الجماعية من تحت الأنقاض. الشهداء من كلّ الأعمار ما زالوا يروون ثرىَ أرضهم ، ومافتئوا يعانون جحيم السّجون والظلمات، ويُحرمون من نور الضياء، ومن القوت اليومي لسدّ الرمق.
إنّهم ما إنفكّوا يعانون التعنّت والتنكيل والشّقاق الداخلي والتشرذم والخلافات وتصدّع صرح الوحدة الوطنية المنشودة بين مسؤوليهم بتعثر تحقيق المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، التي ما برحت تكبو كلما همّت بالإنطلاق والخروج من القمقم الذي زُجّت بداخله لأسباب لا تخفى على أحد. ويا للعُجب فقد يؤول ذلك التعثّر أو ترجع هذه الكبوة في بعض الأحيان لأسباب واهية مثل “تبادل الإتّهامات” أوحدوث “مشادّات كلامية حادّة” قد تنشب بين شخصيّات وازنة أو قادة بارزين من مختلف الفصائل الفلسطينية ولعلّ الله يرشدهم الى سواء السبيل.
الأشقّاء ما فتئوا يذرفون الدموع حرّى ساخنة وينزوون بأنفسهم “الشّاعرة” لينظموا لنا كلماتٍ وأشعاراً مسجوعة مشحونة بالغضب والندم . وتمرّ الأيام وتنقضي الليالي وفي رحمها وخضمّها تتولّد وتستجدّ الأحداث، وننسى أو نتناسى ما فات. وما زالت المآسي تنثال أمام أعيننا وعلى مرأىً ومسمعٍ منّا، فيشاطرنا العالم طوراً أحزاننا وأحيانا يجافينا… ونكتفي بالتحسّر بلغة مؤثّرة باكية، شاكية، كئيبة.
ما أكثر لوحات ونياشين الشّرف التي نزهو بها، وتمتلئ بها دورُنا، وتعلو جدرانَ بيوتاتنا، وما أكثر لأوسمة التي نمتشقها، وتنمّق صدورَنا، وما أكثر ما نعود إلى التاريخ لنستلهمَ منه الدروس والعبر والحكمة، ونستشفّ منه معنويات جديدة لإستئناف مسيرتنا. ولكنّ لا تعمر راحات أيدينا في آخر المطاف سوى قبض من ريح وهواء، أو حصاد من هشيم وخواء .
إننا قوم رحماء بغيرنا، مشهود لنا ومشهورون بالصّفح والتسامح والتصالح ، رحماء بالصغار والكبار، معروفون بهذه الثنائية المركبّة التى تجمع بين القوّة والليّن، والبّأس والشدّة، والصّلابة والطراوة، والرّخاوة منذ القدم ، قال شاعرهم في غابر الازمان :
نحن قوم تذيبنا الأعينُ النّجلُ / على أنّا نذيب الحديدَا …
طوع أيدي الغرام تقتادنا الغيد / ونقتاد في الطّعان الأسودَا….
وترانا يوم الكريهة أحراراً / وفي السّلم للغواني عبيدَا !…
ما زلنا نستدرّ عطفَ العالم ونستجدي رحمتَه ونصف له الفظائع والأهوالَ ، إنّنا قوم حالمون ما برحنا منشغلين بأمورنا الداخلية، منبهرين مشدوهين بالأوار المُستعر وسط ساحاتنا، وداخل بيوتاتنا، وأحيائنا، وأفئدتنا.
الأمل معقود دائماً على مفاهيم ومصطلحات واهية كالمصالحة أوالمصافحة إننا ما فتئنا نأمل بإمعان في هذا التقارب، والتداني، والتصافي، وفي إقصاء البعاد والتجافي، ونتوق إلى التفاهم ، والتلاحم، وإلتئام كل الفصائل والتراحم، وتسخير وإستغلال كل الطاقات والخبرات، والنبش في عمق الثرىَ، والتراب، والتراث لمواجهة فداحة الموقف الذي أمسينا نتلظّىَ ونتردّىَ فيه، وإيجاد الحلول العاجلة والناجعة لهذا الصراع الذي طال أمدُه .. فما أضيق العيش لولا فُسحة الأمل.!
كل منّا مرسوم على محيّاه الجانب المقطّب من وجه موناليزا أو جيوكاندا الشهيرة ، فلا هو بالوجه الحزين ولا بالجَذل، ولا هو بالمُحيّا الباسم الضاحك ،ولا الباكي الشاكي . صيفنا قائظ مُستعر، وخريفنا شاحب مُكفهرّ، وشتاؤنا صقيع مُنهمر، وربيعنا مُزهر مُزدهر… كلّ يحمل همومَه وهواجسَه، وأوهامَه، فوق ظهره ويمضي، ولا أحد يبالي بآلامه، ومعاناته، ولا أحد يكترث بأحزانه وعذاباته.
“السّموأل بن عاديا ” القديم من أبناء عمومتنا كان يُضرب به المثل في الوفاء عند جيرانه وخلاّنه العرب الأقدمين، فكان قائلهم يقول في الأمثال في مجال إحترام المواثيق ، وصون الوفاء والعهود القولة الشهيرة :”أوفىَ من السّموأل” ذاك البعيد الغائر في ثبج الزّمان والمكان، وفي سديم المسافات السرمدية، كان يأبىَ أن يُدنّس عرضُه أو أن تُهان كرامتُه فكانت تبدو وتغدو كلّ الثّياب الرثّة والأسمال البالية التي يرتديها جميلة عليه!
تاريخنا حافل بالامجاد، ولكنّ أعوادنا أمستْ هشّةً، واهيةً، طيّعةً رخوة، إنطلقنا نحو بطولات فردية، دونكيشوتية، وتمرّدية، وهمية، واهية، ودخلنا حروباً، فكشفنا عن مدى ضعفنا، ووهننا، ولزمت الكآبة مُحيّانا، وسكنت الحسرة قلوبَنا ..ولعلّ الله يأتي بفرَج قريب.**
*كاتب من المغرب ، عضو الاكاديمية الاسبانية الامريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.
مقال وفي للحقيقة وللتاريخ ولهواجس الشعوب العربية ولعذابات الشعب الفلسطيني. لقد أمسكت حكومة كرزاي فلسطين بزمام الشعب كما تمسك كل حكومات العرب بزمام شعوبها وتقودها إلى الهاوية.ولا تحرر فلسطين إلا بتحريرها من حكومة عباس كرزاي وسلطة رام الله التي زجت بالقضية الفلسطينية في ثلاجة أوسلو منذ ١٩٩٣.