مع اقتراب الاستحقاقات التشريعية بالمغرب، يبدأ طرح السؤال التقليدي: من يحصل على الرتبة الأولى؟ وتبدأ موجة التكهنات، ويتم في العادة تصنيف الأحزاب المتنافسة القادرة على تصدر هذه الاستحقاقات، لكن ليس هذا هو السؤال الأهم، فالانتخابات ليست إلا وسيلة من وسائل العملية الديمقراطية، وما يؤطرها من قوانين، وما يكتنفها من إجراءات وفضاء، والإرادة التي تحكمها، هو ما يهم، وهو ما يحدد في النهاية النتيجة، ليس في بعدها الانتخابي، أي من يفوز، ولكن أيضا في بعدها السياسي، أي هل تكون هذه الانتخابات رافعة للديمقراطية ومساهمة في تحقيق التراكم في هذا المسار، أم تمثل خطوة تراجعية فيه.
في العهد السابق، لم يكن المسار الديمقراطي مسألة جوهرية في رؤية الحاكمين، بل كان الأهم هو أطروحة التوازن السياسي، أي خلق حزب الأغلبية، الذي يكون قادرا بوسائل انتخابية على مقاومة المعارضة، ومنعها من تصدر العملية الانتخابية.
ولذلك، كان الجوهر في الإرادة السياسية، هو البحث عن حزب الأغلبية، وإسناده بأحزاب الولاء، ثم بناء شبكة الأعيان التي تقدم الخزان البشري لهذه الأحزاب، ثم الرهان على العالم القروي (الأرياف) من خلال نظام انتخابي يركز على نمط الاقتراع الفردي، مع جعل المدينة (مكان ممارسة السياسة وصناعتها) هامشا على البوادي، إذا استحضرنا عدد دوائر العالم القروي بالقياس إلى عدد دوائر المدينة.
لم يكن النظام الانتخابي يراعي التوازن السكاني، فالمدن كانت في الأدنى لا تقل على 45 في المائة من الساكنة بالمغرب ووصلت بعد ذلك إلا أكثر من 55 بالمائة، ومع ذلك، فنسبة تمثيليتها من الدوائر العامة في الوطن لا تمثل أكثر من 20 في المائة، أي أن ديناميات السياسة التي تتم في المحاور الحضرية (المدن المغربية حاضنة النخب) لم تكن تصنع الخارطة الانتخابية، ولم تكن تصنع نخب المؤسسة التشريعية، وإنما تصنعها البادية.
ومع كل هذه الصرامة في ضبط وتأمين وصناعة الخارطة الانتخابية، كانت ورقة التزوير وحرف إرادة الناخبين جزءا من اللعبة، تستخدمها الإدارة الترابية في الكلي والجزئي، أي في مجموع دوائر الوطن، وأيضا في بعض الدوائر المخصوصة، التي يراد فيها تنزيل نخب وتصعيد أخرى. في عهد الملك محمد السادس، تغيرت الأمور قليلا، وترافق عاملان مهمان ساهما في إحداث تعديل جوهري في المنهجية، فالمغرب قبيل وفاة الملك الحسن الثاني رحمه الله، كان يعيش سكتة قلبية بتعبيره، لم تنفع معها جهود الإصلاح الاقتصادي، وترسخت القناعة لدى الملك الراحل أن الجواب ينبغي أن يكون سياسيا، بالرهان على تجربة التناوب، أي تصعيد المعارضة لتقوم بدورها في إنقاذ الوطن. أما العامل الثاني، فيرتبط بتكثيف موارد الشرعية، فالملك الجديد، يريد أن يغير عناصر الشرعية، ويراهن على الإجماع بدل التوافق، ولا يريد أن يحمل معه إرث والده في الصراع مع قوى سياسية.
لم يكن الجواب سوى الرهان على عملية ديمقراطية، تنتهي فيها بالمطلق حرف الإرادة الشعبية، ويتم فيها الرهان على قوانين انتخابية تعتمد نمط اللائحة، بدل الاقتراع الفردي، أي أن المنهجية توجهت إلى الرهان على الأحزاب، وليس الأعيان، وإحداث التوازن في السياسة داخل المدن، بدل الرهان على البادية لمحاصرة المدن.
تغير المنهجية، لم يكن يعني بالضرورة أن المجال المحفوظ (العالم القروي) كما رسم معادلته ريمي لوفو في أطروحته التفسيرية الشهيرة قد انتهى، بل أصبح له دور وظيفي لا جوهري، بينما الثقل ألقي على التوازن في السياسة داخل المدن.
صراع نخب السياسة كان في مصلحة هذه المنهجية، فقد تغيرت البيئة السياسية تماما، فلم يعد الصراع بين نخب الولاء ونخب المعارضة، بل دخل مكون آخر، هو الإسلاميون، وصار بالإمكان الرهان على تقسيم المعارضة، بخلق تقاطب على خلفية إيديولوجية، محافظين في مقابل تقدميين، وذلك بفك الارتباط بين حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، اللذين كانا يمثلان العمود الفقري للمعارضة.
بدأ تجريب هذه المنهجية في انتخابات 2002، وبلغت أوجها في انتخابات 2007، وعبرت الديناميات السياسية عن توتر النسق، ووصول المنهجية إلى أزمة، بعد أن أظهرت النتائج أن الإسلاميين قد أخذوا موقعا يتجاوز الموقع الذي كان يفترض شغله في عناصر المنهجية الجديدة. كانت الآلية الاستثنائية التي تم اللجوء إليها، بدل ورقة حرف إرادة الناخبين بالتدخل في صندوق الاقتراع، هو التحكم في التحالفات، سواء في تشكيل المجالس الجماعية والإقليمية والجوية أو حتى في تشكيل الحكومة نفسها.
المنهجية الجديدة أعلنت عن نهايتها مع نتائج انتخابات 2016، بتحقيق العدالة والتنمية لاختراق مهم للعالم القروي، وفوز شبه كاسح للمدينة الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. مع الانتخابات الوشيكة 2021، تم إحداث تغيير جديد في المنهجية. نظام انتخابي ينهي المنافسة بشكل كامل في المدينة (القاسم الانتخابي على أساس عدد المسجلين بدل عدد المصوتين) بتسوية الأحزاب المتنافسة في المقاعد، أي إنهاء دور المدينة في صناعة الخارطة الانتخابية، وعودة المجال المحفوظ، من خلال توسيع نظام الاقتراع الفردي في الدوائر الأقل من 50 ألف نسمة، والرهان على الأعيان، وجعل مركز الثقل في العملية الانتخابية في المناطق التي يحسمها الترحال السياسي، أي لا تنضبط لولاءات سياسية محددة. في المحصلة، تدور حلبة الانتخابات القادمة في العالم القروي، وفي الأقاليم الجنوبية وفي بعض المناطق التي تعرف زراعة القنب الهندي (منطقة الريف في الشمال الشرقي للمملكة).
في هذه المناطق، لا تتمتع الأحزاب المدينية (الإسلاميين والقوى التقدمية) بنفوذ انتخابي، أما في المدن، فلن تكون النتيجة حاسمة، فسيحصل الأحزاب على نتائج متساوية أو متقاربة. المنهجية الجديدة وقع تعديل مهم، إبعاد المدينة عن مركز ثقل صناعة الخارطة الانتخابية، وعودة المجال المحفوظ، والرهان على الأعيان، والاستمرار في اعتماد ورقة الاحتياط، أي التحكم في التحالفات، سواء في بعدها الإقليمي أو الجهوي أو في بعدها الوطني (الحكومة). ضمن هذا النسق من التفسير، ينبغي طرح سؤال من يحصل على الرتبة الأولى، وضمنه فقط، يمكن طرح السؤال الجوهري، المرتبط بعلاقة كل ذلك بتطوير التجربة الديمقراطية في المغرب. تقديري أن تعديل المنهجية بهذا الشكل الجذري، قد يعني أن خط الاستمرارية قد انتهى، وأن الإرادة اتجهت لصناعة خيار آخر، ينهي لحظة الإسلاميين.
ومع ذلك، فالتقدير عندي، أن كل ذلك لا يعني بالقطع نهاية لحظة الإسلاميين، بل ورقة الإسلاميين لا تزال مطروحة، فسير العملية الانتخابية بكل تفاصيلها حتى نهايتها، هو الذي سيحكم الأمر كله، لكن في الجوهر، وحتى لو حقق الإسلاميون تصدرهم الانتخابي، فإن المنهجية الجديدة المعدلة، ستخلق إطارا سياسيا جديدا، يجعلهم في وضع أضعف تحالفيا، ويجعل تشكيلهم لأي حكومة محكوما بشرط سياسي أسوأ بكثير من الشرط الذي تشكلت فيه حكومة العثماني.
تعليقات الزوار ( 0 )