شارك المقال
  • تم النسخ

في السياسة، هل يمكن أن يكون القائد أحمق ومطاعا؟

لقد عرَّف الدكتور طارق السويدان، وهو أحد المهتمين بعلم الإدارة، القيادة ب “القدرة على تحريك الناس نحو الهدف“؛ وعليه، فإن ثلة من الطبقة السياسية، ليست بالقليلة، ينطبق عليها هذا التعريف؛ ما يعني اعتبارهم قادة بدون منازع، سواء اتفقنا معهم في الرؤى أو اختلفنا؛ ولا يمكن ربط ذلك بالنتائج المتوصل إليها، إن نحن أردنا محاولة تصنيفهم ضمن لائحة الزعماء والقادة السياسيين؛ لكن، هل يكفي حمل لقب الزعيم أو القائد لتجاوز القنطرة كما يقال؟ أم أن الأمر يقتضي أمورا أخرى، لا يمكن الاستغناء عنها في مجال السياسة، للخروج منها سالما غانما؟ 

 لاشك أن الجواب عن الأسئلة أعلاه واضح وبين، ولا يحتاج الأمر للنقاش ولكثير من التفكير أو التأمل؛ غير أن الواقع السياسي، في أغلب الأحيان، يخبرنا بعكس ما يقتضيه المنطق؛ ذلك أن معيار تصنيف الزعماء السياسيين يقتصر على قدرة تحريك الناس فقط، ولو نحو الهاوية؛ ومن المؤكد أن الهاوية تعتبر هدفا، بصرف النظر عن انطباع كل شخص منا، لأن هناك من يرى في الهاوية هدفا، حتى سمعنا ورأينا من يدافع عن حرية الحمق والسفاهة، باسم الحرية والحداثة تارة، وتارة أخرى باسم الدين و”التسنطيحة“.

ولهذا، فإن القائد السياسي لا يستحق وسام الزعامة الحقة، إلا إن توفرت فيه من الشروط الكثير؛ ويأتي في مقدمتها إيمان القائد برؤية واضحة المعالم، بحيث يعمل على إقناع الآخرين بها، حتى إن آمنوا، صار التمييز بين الملتحقين وبينه يتمثل في معيار أقدمية الالتحاق فقط؛ كما أن من أهم الشروط، العمل على تنزيل تلك الرؤية عبر برامج ومشاريع، تراعى فيها كل الظروف والموازين، دون التماهي مع لغة الأحلام، ولا مسايرة منهج من تأكد فشله وصارت مهمته إفشال الآخرين؛ وحتى يُكتب للقائد شرف الزعامة بتحقيق رؤيته، لابد من شرط مهم، يتمثل في التأسيس للعمل المؤسساتي، وذلك بنبذ كل عمل عشوائي مهما كان فاعله، بما في ذلك تصرفاته التي وجب أن تكون مفهومة وخالية من الشبهات والشكوك، لأن زمن الوحي والأنبياء انقضى؛ وأخيرا، فإن القائد الناجح يحاول التأسيس لثقافة الاِتِّباع، بأن يربط الأفراد بالأهداف والقيم، وليس تربيتهم على الطاعة العمياء.

تطبيقا للمثل القائل: بالمثال يتضح المقال، فإننا سنحكي عن  قصة أحد الزعماء الذين سجلهم تاريخ البشرية؛ ولعل الكثير منا سمع بها، لكن من المفيد إعادة نشرها، بشيء من التصرف، حتى نتعظ من نهايتها المأساوية، بعدما تبين أننا، غالبا، ما نتخذ من قصص التاريخ فرصة للاستمتاع بتفاصيلها، بعيدا عن الاستفادة وأخذ العبر.

لقد سجل التاريخ، في عهد النبوة، كثيرا من الأسماء والشخصيات التي عارضت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بيد أن أحد هذه الشخصيات لم يكن عاديا، ويُدعى عُيينة بن حصن، كان زعيما لقبيلة غطفان، التي كانت قبيلة عربية كبيرة ذات شأن، إلا أن مشكلتها كانت كامنة في زعيمها هذا.

مما جاء في سيرته، أنه وقف مع يهود خيبر، يناصرهم ويعادي المسلمين، في وقت كان المسلمون يكبر شأنهم ويتعاظم أيضا شأن دولتهم، بل إن الحكمة كانت تقتضي احترام تلك الدولة، أو بالأحرى  التزام الحياد؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فاوضه على أن يكون محايدًا في هذه المعركة وله نصف اقتصاد خيبر، لكنه رفض ذلك رغم كل الإغراءات.

بعدما بدأت المعركة ورأى عُيينة كيفية انهيار خيبر، لم يتراجع عن قراره ذلك؛ بل الغريب لم يقم أحد من جيشه، وكانوا يومئذ أكثر من أربعة آلاف مقاتل، بتقديم رأي آخر يعارض توجهات زعيمهم، واكتفوا باتباعه إلى أن انتهى أمر اليهود؛ فجاء عيينة بعد ذلك دون استحياء، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب أن يعطيه بعض غنائم الحرب، حتى يكف عن معاداته؛ ومن البديهي ألا يحصل على شيء، لأن وقت التفاوض انتهى؛ ولهذا طرده الرسول عليه الصلاة والسلام من مجلسه.

لعل قصة هذا الرجل، والذي يقود الآلاف من قومه، وتسخيرهم لمحاربة الإسلام ورسوله الكريم، وامتلاكه تلك الجرأة في الطلب الذي حكينا عليه أعلاه، مع اشتهاره بقرارات متسرعة، والتي تكون نتائجها سلبية على نفسه وقومه بشكل دائم؛ بل كان مستبدا لا يسمع ولا يشاور؛ يستحق أن يكون رمزا للحمق، وإنما كان وصفه ب “الأحمق المطاع” على لسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خير وصف يليق به، ولا يسعه من الأوصاف إلا ما وُصفه به.

وعليه، فإن الحديث عن الأحمق المطاع، يجعلنا نستحضر في أذهاننا بعض النماذج التي تعيش في عصرنا، وتتشابه مع الأحمق المطاع في كثير من الصفات إلى حد ما، رغم اختلاف الظروف والملابسات؛ مما يجعل واجب الوقت الحد من انتشار هذه النماذج وعدم تكرارها، وذلك بالعمل على عدم السير في ركبهم، بعدما أصبحوا يملؤون علينا الشاشات والأزقة، بل أصبح الواحد منا لا يملك من الخيار إلا الوقوع في فخهم، إن لم ننتبه جيدا لخطواتنا، حتى أصبح يُخَيل لنا أن البلاد لا تُنجب إلا مثلهم، رغم كثرة العقلاء والقادة الحقيقيين، الذين يُغيبون قصدا، وبدون قصد، من الظهور على الشاشات الصغيرة التي غزت الواقع؛ ولهذا، فإن الوقت قد حان للتصدي لمثل هذه النماذج بالاحتكام إلى العقل والمنطق، وإلا صرنا من الحمقى، وسجل التاريخ قصتنا، حتى تُذكر كما ذُكرت قصة الأحمق المطاع وقومه، في يوم من الأيام.

اللهم ارزقنا المنطق والعمل به.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي