ليس بحثا عن سحرية سرد أو غرائبيّة معنى. ليس شعرا هاربا من نزوة الإيقاع وليس محض كابوس عابر في قيلولة مُرْتَجَلَة، سوى إنه النداء، الذي يبدو أشد احتدادا من أن تتحمل موجاته الصاعقة مسامع الأرض أو السماء. نداء، تشققت من هوله هياكل المجهول، مدوية هكذا وضدا على بؤس ذهولنا، من عمق حنجرة القيامة. نداء، لا يكف عن مطاردة حياد الكون، مهما حاول أن ينأى بصمته عن مسالكها التي ما فتئت تكبر، تتسع وتتشعب، حتى تجهز على ما تبقى من أسماء المسالك وأوصافها، بعد أن أمست كل نقطة وفاصلة منها موقع تنكيل، سحل وتقتيل.
ذاك هو عين ما تراه بكل ما ينتاب قلبك وعقلك من رعب، حيث ليس لك سوى أن تولي وجهك صوب ما لم تتضح بعد معالم أَسْيَاخِه، أي صوب ما هو أنكى، وما هو أشد ترهيبا وإيلاما. إنها القيامة التي طالما تحاشت الكتب المقدسة إخبارنا بما قل من حقائقها. القيامة التي علينا أن نتقلب على جمرها، الذي تتلذذ أفران جهنم بِإِغْدَاقِ ما تَطْفَحُ بِهِ من كَيٍّ ووَخْزٍ علينا. هي أدخنة صهيونية تتدفق من صلب أفران نووية، وأزمنة تتناثر أعضاؤها في متاهات البدد. هنا شوهد ما يشبه وسم هواء ضائع.
شوهد ليل سَدِيمِيٌّ تُدَثِّرُه سُجُف الهباء. ليل يوحي باحتمال ارتطام السماوات بالأرض، حصار مغولي يسابقه حصار. غارات دموية تفضي حرائقها إلى عمق أرواحنا. هنا فقط عليك أن تحتفي بتجديد ذاكرة الإفناء. ذاكرة النهايات القديمة. ذاكرة الخروج من جنة تطايرت أشلاء نعيمها، حيث لا أرض ولا سماء. ثم ما اسم ما لم يأت بعد أوانه من ليالي السحل في عمق هذا الظلام؟ نحن قتلى فقط، مُبَادُونَ كما يقولون فقط، بل نحن أجداث ضحايا تحدق يقظى في عيون جحافل القتلة، وحولنا يحوم ما تراه العين وما يراه الظن. حواجز رقمية، أسيجة عنكبوتية، وحيطان إلكترونية تتحكم في تغليقها أذرع الجبروت. تيه وتهجير بالجملة، قل أنت أيها الحق بما تبقى فيك من زيف! قولي أنت يا نفاية أعراف هذا الصمم الرجيم!
ذاك ما قيل لنا: لكم هذا الخروج المحروس بما يكفي من القصف، حيث ما من خطوة آمنة. خروج، حيث لا سيناء ثمة لا طور، جبلا كان، سديما، أو محض وهم يغدو أمامنا ويروح. خروج راعف بطعم اجتياح ماحق. ذاك بعض ما قيل لنا: اصبروا وصابروا يا أحفاد التيه، عراة حفاة أنتم أمام كيد القذائف. ذاك بعض ما قيل لنا: لكم الآن أن تخرجوا من الماء، أن تخرجوا من رغيف البقاء، أن تخرجوا من حدود المكان. أن تخرجوا وكفى، من كل شيء نحن فيه الآن.
إذن على ضوء ماذا في هول هذا الظلام المريع؟ تحت سمع السماء وأبصارها؟ ما المتاح لنا، قل أنت أيها البدد الآن؟ فيما الغربان تطير بآخر ما تبقى من هديل، يتأرجح فوق أنقاض الممر؟ هي مهلة خاطفة، وتقيء السماء ما في جوفها من خراب. فما مآل آلهة مهددة باحتراق عروشها، ما مآل جيش من ملائكة، حوله يشتد طوق النار؟ قل إن شيئا ما يجن في رأس هذا الخروج المطوق بتراتيل أبالسة مقبلة من دَيَاجِيرِ الجحيم. أليس كذلك يا أغربة سلام تحوم فوق عواصم بين أضراسها ينز صوت السم؟ ضد فتح المعابر. ضد ما تهالك أو على أهبة الانقراض. ضد إطلالة أي ضوء قيل لنا، فيما وابل القصف يزركش ما تبقى من مساكننا. فهل لنا أن نصرخ الآن، أم لا شيء يغري بالبقاء على شرفات، هي الآن حتما آيلة لانهياراتها؟
أهلا إذن، بِهَوْدَجِ هَذْيِ النوائب وهي تأتي متوجة بلؤم التعاطف، حالا سيأتي قادة على بوارجهم من كل جهات الكون. سيأتي الإخوة الأعداء على خيول مطهمة عرجاء أحيانا وعارية من الصحة، سوف يفتون حتما بالمزيد من الوعيد المُرَقّط بالوعد والبهتان. ليس إرهابا تلموديا ما يكيلون به لنا. ليس تنكيلا قديما أو حديثا، هكذا صاح بنا شركاؤهم في تأميم طقس الخراب. هو محض أمر بالإخلاء الحثيث الذي لا مرد له لا الآن ولا ما يليه. وها هي ذي أجداث ضحايانا تملأ ما كان من قبل رحبا. قنابل فوسفورية مدربة على اقتفاء ما يكفي من طرائدها. خطر داهم يتربص ربما حتى في حنجرة اليمامة، فليكن القصف دليلنا إلى مكمن النبض فيكم، ذاك ما قيل لنا. قصف مثخن بكل ما يقتضيه المقام من نعي، ومن خبث ومن أحقاد.
ولك الآن أن تتأمل كيف تشتعل الحرائق في تفاصيل الهواء، كيف تنتشل الجثامين من أرحام الرماد، كيف يعلو ثم يعلو نعيب غربان تتسلل خلسة من فم القتلة. ولست أدري إلى أي شعب كاذب، محتل ومحتال يشير ذاك النجم المقطب؟ حيث ما من شعب هناك، عدا عجل محاط بالثعالب والذئاب في معابر جاهزة لإجلائنا إلى عمق البراري. معابر آمنة لتمرير دبابات تنتشي بسحق ما تبقى من معالمنا. وها هم يستهدفون المقعد والأعمى، يستهدفون الأجنة والنساء، يستهدفون رأس الحكاية أيضا، تغريدة طير عذبتها الحيرة أعلى جمار الروع. خلسة، أمسينا كما ترى الآن، قبيلة من النمل تسحقها حوافر صهيون. قبائل هي من بهتان ومن لؤم وكيد. فهل ثمة لو سمحت من توصيف محتمل في الأرض أو في السماء لهذي الجريمة؟ هل ثمة من مرجعية أخلاقية في ذاكرة الخنازير، هل من رسالة وصلت، أو لم تصل بعد عن دلالة انبعاث كاذب في ليل العدم؟ وعن أي ضفة تبحث هذي البوارج الرقمية داخل شاشة تتهيأ الآن لفتح باب جحيمها على آتي الكلام. جحيم مغلق على كل أصناف الأذى.
وليس ما تراه الآن استهتارا بوعي، بضمير، قيم، أو نوايا، هو إن شئت التفجير الصاعق لأشد ما في غرائز الوحش من خبث وأحقاد تضيق ذاكرة المدى بمروقها. هو إن شئت قتل عشوائي، مبارك برعاية إجرامية من منتديات سدنة القتل. وما من شفاعة لجرعة ماء، أو مصل مضاد واعد باحتمال البقاء. لا وقت للقيل والإنصات إذن. لا وقت لانتزاع فتيل الخراب، لا وقت لما يعد العقل أو الجنون به، ولا وقت أيضا لاستجداء أدنى مناشدة قد تجود أو لا تجود بها أمم منسية في واجهة الإيوان، و في مزابله، ما دمنا هنا شاءوا، أو أبوا بإسناد تاريخي من ذاكرة المكان. ويا لوقاحة هذا الرجس التلمودي الذي يستميت من أجل تطهير مسقط روحنا منا، بكل ما في شريعة القتل من زيف، ومن تحريف. حصار محكم بكل لغات المسخ. أبواق ملغومة مثبتة في حناجر الأبراج، حيث الحقيقة تنتشي بتناسخ عصف الإبادة في أوصالها. ونحن منهمكون في دفن حشود من ضحايا لا علم لنا بأسمائهم.
أخيرا قطعوا أوردة المياه، أوردة الضوء، وأوردة الهواء. هو فصل آخر من فصول مداهمة الضباع لمشتل الأحلام. وطن هو أم مقبرة جماعية يتساءل فيها الضحايا عن هويات القادمين؟ أيد نتانة تدحرج أقدارنا في اتجاه هاوية لا قرار لها. خطوط استغاثة بيانية تتصاعد في اتجاه السماء بحثا عن خلاص لا يبين. حصار فولاذي بكل منظومات الإبادة. تجفيف لكل منابع حلم البقاء. هكذا هم ينتشون بذبحنا ناسبين رؤوسنا إلى أجسادهم. أخيرا، ليس لكم الآن، إلا أن تدخلوها غير آمنين أنتم يا أحفاد الغزاة، تماما كما دخلت من قبل جحافل أجدادكم، الآن حيث ليس لنا سوى أن نتوقع ميقات انفجار، يخلي ذاكرة التاريخ من مكر كيانكم ضدا على بوارج الطغيان.
تعليقات الزوار ( 0 )