يتميز فوز ترامب لولاية ثانية في ديمقراطية عريقة كالولايات المتحدة بخصوصية سياسية لافتة ، ليس من ناحية عددها ، فهناك رؤساء سابقين حظوا بتجديد ولاياتهم الرئاسية لمرتين أو أكثر كروزفلت على سبيل المثال ، لكن من حيث طبيعتها غير المتوالية .فلأول مرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد الرئيس تيودور روزفلت ، يفوز رئيس أمريكي بولاية غير متوالية . مما يطرح ضرورة مقاربة هذا الفوز ليس بمحددات انتخابية بل بالأساس بثوابت تتحكم في الثقافة السياسية الامريكية.
-الثوابت السياسية المتحكمة في فوز ترامب
يمكن أن نتمثل هذه الثوابت في الفحولة السياسية وأسطورة البطل السياسي المتجذرة في المخيال السياسي الأمريكي.
ترامب وتجسيد الفحولة السياسية
يبدو أن ترامب خلال الولايتين الرئاسيتين غير المتتاليتين اللتان فازا بهما قد واجه بخلاف رؤساء سابقين مرشحتين تمثلتا في الولاية الأولى بهيلاري كلينتون الذي نجح في هزيمتها رغم تجربتها السياسية الطويلة داخل الحزب الديمقراطي وتمرسها السياسي إلى جانب زوجها الرئيس بيل كلينتون الذي فاز بولايتين رئاسيتين ، والمرشحة كامالا هاريس التي لم تستطع الصمود أمام ترامب رغم كل استطلاعات الرأي التي كانت تؤشر على تقارب في حظوظها الانتخابية مع حظوظ المرشح الجمهوري . لكن يبدو أن كل هذه التوقعات جانبت حقيقة فوز ترامب في الأخير نظرا لأن الأمريكيين والامريكيات يبقون في جوهرهم حبيسي الثقافة السياسية الذكورية .إذ ما زالوا لا يمكنهم تصور أن تحكمهم امرأة كيفما كانت تجربتها وكاريزميتها السياسيتين .فبالاضافة إلى أن المرأة الأمريكية لم تدخل الى المعترك السياسي إلا بشكل متأخر نسبيا عن باقي الديمقراطيات في أوربا ، ولم تحصل على حق التصويت بشكل كامل إلا في عشرينيات القرن الماضي ، فالامريكيون لا يتمثلون المرأة في السياسية نظرا لان ثقافتهم الديمقراطية لم تتأسس على هذا التمثل بخلاف الديمقراطيات الاوربية التي سبق أن حكمت فيها ملكات من طينة إليزابث في إنجلترا على سبيل المثال . فالاباء المؤسسون للديمقراطية الامريكية لا توجد بينهم امرأة . وبالتالي ، فإذا استأنس الأمريكي خلال العقود الأخيرة أن تمثل المرأة في الكونجرس بمجلسيه بل وأن تترأس مجلس النواب ، وكذا في أن تسند لها مهام في الوزارات ككاتبة دولة في الخارجية على سبيل المثال أو مندوبة دائمة في المنتظم الدولية ، فهو ما زال لم يقطع مع إمكانية أن تحكمه رئيسة في بلد ممتد لا على الصعيد الإقليمي أو العالمي . وبالتالي فقد استفاد ترامب من هذا التمثل السياسي خاصة في مواجهة هاريس ليس فقط لكونها امرأة بل أيضا لانها من الأقليات . فإذا قبل الامريكيون بعد عقود من العنصرية أن يولى عليهم رئيس أسود فإنهم ما زالوا لحد الآن لم يتصوروا أن تحكمهم امرأة ومن الأقليات.
ترامب كتجسيد للبطل السياسي
تشكل أسطورة البطل hero أحد ثوابث الثقافة السياسية الأمريكية . فقد خاضت الولايات المتحدة حروبها الخارجية والداخلية مستندة إلى هذه الأسطورة .و يظهر هذا بالأساس في المراسيم التي يحاط بها تأبين ودفن كل الجنود الذين قتلوا في الحروب . فايزنهاور تولى الرئاسة لولايتين كبطل شارك في الحرب العالمية الثانية وحرب كوريا وغيرها وفاز رونالند ريغان بالرئاسة من خلال تمثله في أدوار بطولية بسينما هوليود وكذا لمواجهته للخطر الروسي من خلال ما سمي بحرب النجوم . وبالتالي ، فقد مثل ترامب هذه الأسطورة من خلال تمرده على أسلوب مؤسسات الحكم بالولايات المتحدة كمجلس الامن القومي و هرمية الإدارة الرئاسية من مستشارين وغيرهم حيث قام خلال ولايته الرئاسية بعزل العديد من مستشاريه ومعاونيه زلهم . كما تمثل ذلك بتشكيكه في الانتخابات الرئاسية التي أدت إلى هزيمته وجعلت أنصاره يقتحمون مقر الكنجرس أحد رموز الديمقراطية في أمريكا . بالإضافة لمتابعة الأمريكيين مسلسل محاكمته أمام القضاء في الوقت الذي كان يدافع فيها عن براءته واتهام خصومه بابعاده عن الترشح للرئاسيات القادمة . كما أن تعرضه لمحاولتي اغتيال أثارت لدى الأمريكيين واقعة اغتيال الرئيس ابراهام لنكولن موحد البلاد ومحرر العبيد وكذا اغتيال الرئيس جون كينيدي من طرف خصومه . ولعل كل هذه التمثلات قد ساهمت بلا شك في إعادة الرئيس ترامب إلى سدة الحكم لولاية ثانية في ظرفية تواجه فيها الولايات المتحدة حربين وصلت تداعياتهما إلى الأوساط الامريكية كالحرب الروسية الأوكرانية و حرب غزة التي حركت الأوساط الطلابية بالجامعات الامريكية لأول مرة بعد حرب الفيتنام . وقد ظهر ذلك حتى داخل الحزب الديمقراطي ، ففي في مقال رأي بصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، توقع الكاتب كينيث خاشيجيان خسارة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات القادمة لعدة أسباب من بينها ” أن مئات الآلاف من الديمقراطيين التقليديين الذين نشؤوا في أميركا ما بعد الحرب لا يمكنهم تصور هاريس وهي تسير على خطى قادة حزبهم السابقين الأسطوريين مثل فرانكلين د. روزفلت، هاري ترومان، جون ف. كينيدي، ليندون جونسون، هوبرت همفري”.
المحددات الانتخابية المتحكمة في فوز ترامب
يبدوا أن هناك عدة عوامل ساهمت في فوز ترامب تمثلت بالأساس في:
-الدخول المتأخر لهاريس في المعركة الانتخابية,
منذ إعلان الرئيس بايدن الترشح لولاية ثانية بعد حصوله على ترشيح الحزب الديمقراطي بفوزه بأصوات أكثر من 3800 مندوب، والضغوط تمارس عليه للانسحاب من السباق الرئاسي ضد خصمه ترامب الذي كان يرى أن تقدمه في السن واعتلال صحته قد يشكل أحد مكونات استراتيجيته الانتخابية. مما دفع بقياديين من الحزب الديمقراطي كالنائب عن ولاية كاليفورنيا آدم شيف ، والرئيسة السابقة لمجلس النواب نانسي بيلوسي التي لا تزال تتمتع بنفوذ كبير، إلى الطلب من بايدن بسحب ترشيحه لأنه يقضي على حظوظ الديموقراطيين في الفوز في الانتخابات التشريعية، خاصة بعد تراجع فرصه في استطلاعات للرأي، وبعد الظهور الباهت في المناظرة التلفزية التي تواجه فيها مع ترامب. غير انسحاب جو بايدن من سباق الانتخابات الرئاسية الأميركية بشكل متأخر خاصة بعد الضغوط التي مورست عليه من طرف قياديين من حزبه ، قد أثر بشكل كبير على الحملة الانتخابية التي خاضتها هاريس ضد ترامب. حيث قلصت من الفترة الزمنية التي تمكنها من التهييء لحملتها الانتخابية. حيث أن الرئيس جو بايدن كان أول مرشح يفعل ذلك في وقت متأخر من الحملة الانتخابية، لكنها لن تكون المرة الأولى التي يقرر فيها رئيس حالي سحب ترشيحه أو عدم السعي لإعادة انتخابه.ففي عامي 1952 و 1968 قرر الرئيسان السابقان هاري ترومان وليندون جونسون الانسحاب من سباق الترشح قبل نحو ثمانية أشهر من الانتخابات. في الوقت لم تتمتع فيه هاريس سوى بأقل من ستة أشهر. بالإضافة إلى ذلك فيبدو أنه لم يكن هناك توافق بين مكونات الحزب الديمقراطي حول ترشيح كامالا هاريس ، حيث أوردت تقارير وسائل إعلام أميركية مؤخرا أسماء العديد من الشخصيات البارزة في الحزب الديمقراطي لخلافة بايدن المحتملة في السباق الرئاسي، ومن بينهم حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم وحاكمة ولاية ميتشغان غريتشن ويتمير. لكن يبدو أنه قد تم على مضض اختيار نائبة هاريس لتجنب حدوث انقسام حاد داخل الحزب وتفاديا لأي تمرد داخل قواعده الشعبية في حال لم يتم ترشيح هاريس للمنصب، فهاريس من أصل أفريقي، وأكبر قاعدة للحزب الديمقراطي هي من الناخبين الأميركيين من أصل أفريقي”. وقد نقل موقع بوليتيكو عن مساعدين لهاريس قولهم إنه “كان على بايدن الانسحاب مبكرا مما يسمح لنا بإجراء انتخابات تمهيدية تفوز بها هاريس”. وقال المساعدون إن هاريس قامت بأفضل حملة انتخابية، لكن بايدن كان السبب الوحيد وراء هزيمة هاريس والديمقراطيين.وأضافوا أن “الزخم الذي بنته هاريس لم يتحقق فهي لم تنجح قط في دفن شبح بايدن بشكل كاف، الأمر الذي أعاق بشدة قدرتها على إقناع الناخبين بفكرة أن ترشيحها هو الذي سيقلب الصفحة”.
-الفشل في استمالة الولايات المتأرجحة
قبل 5 أيام من لحظة الحسم الانتخابي بين ترامب وهاريس، أظهرت استطلاعات الرأي تقاربًا كبيرا في نسب التأييد بين المرشحين، واحتدام السجالات بين حملتي المرشحين للرئاسة حول قضايا رئيسية مثل الاقتصاد والهجرة، خاصة قضايا تتعلق بالأميركيين من ذوي الأصول اللاتينية والعرب والمسلمين، إضافة إلى الأبعاد المتعلقة بالحرب في غزة. وبالتالي فقد تركزت المنافسة بين المرشحين حول ضمان تأييد الولايات المتأرجحة. ففي ولاية فلوريدا، التي طالما كانت متأرجحة في الانتخابات السابقة، نجح ترامب في حسم أصواتها حيث أشارت أرقام التصويت المبكر إلى تفوق الناخبين الجمهوريين على الديمقراطيين في هذه الولاية، وهو أمر غير معتاد، مما أثر سلبًا على حظوظ هاريس التي لم تزر هذه الولاية . وفي ولاية نيفادا، ركز ترامب على توسيع قاعدته الشعبية في ملفي الاقتصاد والهجرة وأمن الحدود، مستغلا ملف الشرق الأوسط لاستمالة أصوات العرب الأميركيين.في الوقت الذي واجهت فيه هاريس تحدياً في التعامل مع قضية الحرب على غزة خلال جولاتها الانتخابية، حيث كان يقاطعها الحاضرون في تجمعاتها الانتخابية للمطالبة بإنهاء الحرب. ولعل هذا ما أفقدها أصوات الجالية العربية التي تشكل كتلة تصويتية مؤثرة، خاصة في ولاية ميشيغان، بعدما أثارت تصريحات بعض الشخصيات السياسية مثل الرئيس السابق بيل كلينتون جدلاً حول موقف الحزب الديمقراطي من الجالية العربية، وهو ما قابله عمدة مدينة ديربورن عبد الله حمود بدعوة الحزب الديمقراطي للتوقف عن إرسال ممثلين لا يحترمون المجتمع العربي الأميركي. كما شهدت ولاية تكساس كذلك تقدماً كبيراً لترامب ، حيث صوت ناخبوا هذه الولاية لصالح الحزب الجمهوري. وفي ولاية أريزونا، حيث يطغى ملف الهجرة على مزاج الناخبين، شهدت نسبة الاقتراع المبكر 78% من الناخبين البالغ عددهم أكثر من 4 ملايين، إقبالا أكبر من الجمهوريين مقارنة بالديمقراطيين، خلافاً للأعوام الماضية . ولعل إدراك هاريس بتراجعها الانتخابي في هذه الولايات ، جعلها في اليوم الأخير من الانتخابات تتنقل ، ومعها عشرات الشخصيات الفنية والرياضية وآلاف المتطوعين الى ولاية بنسلفانيا، أهم الولايات المتأرجحة للدق على أبواب الناخبين، حيث لخصت هاريس أمام الالاف من أنصارها رؤيتها لمستقبل الولايات المتحدة، ولتقارن للمرة الأخيرة بين ما تمثله من قيم المساواة والعدالة والسياسات التي تنبذ التمييز، وما يمثله الرجل الاخر الذي لم تذكره بالاسم من رؤية سوداوية لحاضر ومستقبل الولايات المتحدة، والتي ترى هاريس وحزبها الديمقراطي، أنها تمثل تهديدا جوهريا للجمهورية الأمريكية. من جهته، لم يكتف دونالد ترامب بزيارة بنسلفانيا فقط، بل أضاف اليها ولايتي نورث كارولينا ومتشغان في يوم واحد، حيث واصل إهانته الشخصية لهاريس وللرئيس جوزف بايدن، وليهدد المكسيك في حال انتخابه بفرض التعريفات المكلفة إذا لم تضبط حدودها الشمالية، ومتهما وسائل الإعلام بالكذب وتضليل الأمريكيين، لأنها تؤكد تقارب الحملتين، وليقول لأنصاره إن إعادة انتخابه ستمثل عصرا ذهبيا لأميركا.
تعليقات الزوار ( 0 )