Share
  • Link copied

فشلنا الكروي أخلاقي أكثر مما هو تكتيكي!

“تذمر عارم من أداء الأسود”؛ هذا الشعور السلبي نفسه الذي يتكرر كلما شارك المنتخب الوطني المغربي في منافسة إفريقية أو عربية أو عالمية، أو حتى كلما لعب مباراة ودية على أرضية أحد ملاعبه الجميلة. والعجب العجاب أن هناك من يقسم (وما أكثرهم!) بأنه لن يشاهد أي مبارة للمنتخب بعد اليوم، لكن عندما يلعب “الأسود” من جديد تراه أول من يتجه إلى المقهى لمتابعة المباراة، وأول من يصرخ ويرقص ويجذب عندما يسجل المنتخب على خصمه، وأول من يسخط ويتذمر إذا انتهت المقابلة بالخسارة، بل وينطلق بعد ذلك في تحليل المباراة بدقة كبيرة وتعابير جميلة وسيناريوهات متنوعة، كأنه يحلل قصيدة لعنترة بن شداد في إحدى معاركه ليس الكروية بل الحربية والفروسية. فتارة يُحمّل كامل المسؤولية للمدرب، وطورا لبعض اللاعبين، دون أن ينسى جامعة كرة القدم التي عادة ما تُتهم بتبذير الأموال الطائلة على حساب الشرائح الاجتماعية الهشة والمسحوقة من الشعب.

وما يبعث على الاستغراب حقا، أن تلك الشرائح المسحوقة نفسها تهرع لمشاهدة المنتخب وتشجيعه بالنفس والنفيس، وهي تنسى أو تتناسى وضعيتها السوسيو- اقتصادية المزرية، التي يمكن اعتبارها نتيجة خلل في ترشيد ميزانية البلاد، والتركيز على الأولويات من تعليم وصحة وفقر وغيرها. وتنطبق على هذه الحالة رؤية الفيلسوف نعوم تشومسكي حول القطيع الذي يُساس بالهراوة! وقد تكون هذه الهرواة حقيقية كما هو الحال في العالم الثالث، أو رمزية كما هو الحال في العالم المتحضر. ثم إن هذا “القطيع الضال يعد مشكلة وعلينا منعه من الزئير ووقع الأقدام، عليهم أن ينشغلوا بمشاهدة أفلام العنف والجنس، أو المسلسلات القصيرة، أو مباريات الكرة…”

إن الخلاصة التي يُجمع عليها أغلب من يتابع مسيرة المنتخب الوطني المغربي، هي أنه يعتريه الضعف والتفكك وعدم الانسجام ونحو ذلك، وهذه خلاصة سلبية نكاد نرددها بعد مشاهدة كل مباراة تنافسية أو ودية. وعندما أتأمل شخصيا تاريخ المنتخب المغربي منذ أن بدأت أدرك معنى الكرة المستديرة ومتعة لعبها ومتابعتها، وذلك انطلاقا من أوائل ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنا نشاهد مبارايات المنتخب بالأبيض والأسود في قريتنا النائية والمهمشة، على تلفاز “عمي محمد” الذي كان من الأوائل ممن اقتنى الصندوق العجيب في المنطقة كلها! منذ ذلك الزمن البعيد الذي يمتد إلى أكثر من أربعة عقود، ونحن نردد تلك الخلاصة السلبية نفسها حول كون منتخب “الأسود” ينقصه الانسجام، ولديه ثغرات في الدفاع، ويفتقر إلى من يتقن التهديف، وهلم جرا.

وهذا يعني (أقول للأجيال الصاعدة التي ولدت ما بعد عام 2000) إن هذه الوضعية غير المرضية للمنتخب الوطني ليست جديدة، بل قديمة تكاد تحضر في كل مراحل تاريخه، منذ أن لعب لقاءه الرسمي الأول في 19 أكتوبر 1957 ضد العراق في الألعاب العربية، وخرج منه بالتعادل. من الأكيد، هناك بعض اللحظات الاستثنائية الجد محتشمة، كما في 1976، و1986، و2004، لكن هذا ليس من شأنه أن يستجيب لتطلعات المغاربة الذين يحلمون بمنتخب من عيار عالمي ثقيل، بل ولا يكون عند مستوى رمزية المغرب وتاريخه وموقعه الإفريقي والعربي والدولي.

إن إشكالية المنتخب الوطني المغربي لا تتعلق باللاعبين، فنحن نتوفر على كفاءات كروية محترفة من طراز عالمي، تمارس في أندية أوروبية كبيرة ومشهورة، ولا ترتبط بالمدربين، فقد تناوبت أسماء معروفة ومتميزة على تدريب “الأسود”، كالمهدي فاريا وهنري ميشيل وبادو الزاكي وهيرفي رونار، ولا تقترن بالبنيات الرياضية التحتية، فالمغرب يتوفر على أفضل الملاعب والمرافق والإمكانيات اللوجيستيكية مقارنة مع البلدان الإفريقية، ولا ترتبط بالجمهور المغربي، حيث تعتبر كرة القدم إحدى العناصر المهمة التي تلهم حماسه الوطني، وأيضا لا يمكن أن نعلق فشل “الأسود” على الجامعة الملكية لكرة القدم، التي تهيء للمنتخب كل الإمكانيات المادية واللوجيستيكية والمعنوية.

تُرى أين يمكن الخلل إذن أمام توفر كل هذه القدرات والفرص التي تغيب حتى عند بعض البلدان الأوروبية والغربية؟

نعتقد أن الإشكالية في حالة المنتخب المغربي ليست ذات طابع تكتيكي ومادي يتعلق بالموارد والإمكانيات والتقنيات، بل ذات طابع بنيوي وتربوي وأخلاقي، حيث الفريق يكاد يفتقر إلى القيم الكروية الحقيقية التي تحضر لدى بعض المنتخبات الناجحة، التي يبدو وكأنها تتلقاها بالفطرة، فتلعب كرة القدم بالسليقة، وينشأ الانسجام بين اللاعبين بشكل طبيعي وتلقائي لا تصنع ولا تكلف فيه. إن قيمة الانسجام لا يمكن شراؤها أو تركيبها في المصانع، بل تُكتسب بالتربية والترويض والقابلية. كما أن الفريق الوطني ينقصه اللعب الجماعي العفوي، وهو أيضا قيمة أخلاقية بالدرجة الأولى تعني أنه ينبغي أن تتعلم كيف تتخلى عن القيم السلبية التي تحول دون المشاركة مع الآخرين، كالأنانية والاستئثار والفردية، وهكذا لا تفكر أن تكون أنت الأفضل فقط على حساب الآخرين، بل تلعب مع فريقك ككتلة واحدة متماسكة وغير مجزأة ومفككة، ليكون الفريق كله هو الأفضل. ثم إن المنتخب الوطني يفتقد الصمود والتجلد ليس الجسدي فقط، بل السيكولوجي أيضا، فالنفسية القوية التي تتمتع بالثقة الكاملة من شأنها أن تشحن الجسد بالصمود والحماس والاستماتة.

ولا يتعلق هذا الخلل بالشأن الرياضي فقط، بل ينطبق أيضا على شتى المجالات التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية، والدليل على ذلك هو مخرجاتها المحتشمة ومردوديتها الهزيلة كما تشير إلى ذلك الإحصائيات الدولية، وليس مرد ذلك إلى غياب الرؤية الاستراتيجية والأهداف الملموسة والإمكانيات المادية والبشرية، بل إلى الافتقار إلى مرجعية تربوية وأخلاقية تربط كل عمل أو مشروع أو مؤسسة بجملة من القيم الإيجابية كالانضباط، والتعاون، والصبر، والاستعداد النفسي، والتضحية. عندما نربي أبناءنا على هذه القيم في البيت والمسجد والمدرسة والشارع والإعلام، يمكن أن نحقق في المستقبل جيلا مثاليا يستجيب لتطلعاتنا كمغاربة، فينهض تعليمنا، وتتجدد مؤسساتنا، ويرقى إعلامنا، ويكون لنا منتخب وطني قوي ومنسجم ومشرف.   

*باحث مغربي مقيم في بلجيكا

Share
  • Link copied
المقال التالي