عقب الحرب الأوكرانية الأولى، التي أدت إلى اقتطاع إقليم القرم وضمه لروسيا، في عام 2016، نشر النرويجيان جان هالاند ماتلاري وتورموند هايير كتابهما “أوكرانيا وما وراءها: التحدّي الأمني الاستراتيجي لأوروبا”. والذي يكتسب اليوم أهمية أكبر بسبب تجدّد الحرب على الساحة الأوكرانية، وبسبب تحقق النبوءة التي كان يحملها، والتي كانت تعتبر أن التدخل العسكري الروسي قد يتكرّر، لأنه لا يوجد في الواقع ما يمنعه. ويفصّل الكتاب في موضوع الهشاشة الأمنية التي تعيشها القارّة الأوروبية وأسباب التباعد في وجهات النظر بين دولها وبين الشريك الاستراتيجي الأميركي الذي يعمل على ضمان مصالحه من خلال إيجاد ارتباط اقتصادي وسياسي وأمني وثيق بأوروبا.
جان هالاند ماتلاري أكاديمية نرويجية وأستاذة لعلم السياسة، وهي أيضاً سياسية معروفة من الحزب المسيحي الديمقراطي، وهو ما يجعلها تجمع، بشكل نادر، بين الخبرة الأكاديمية والتجربة السياسية، ما يجعل لآرائها ومخاوفها ثقلاً وأهمية.
بجانب ماتلاري، يجمع هايير، الشريك الآخر في إعداد الكتاب، بين الخلفية العسكرية وكونه أستاذاً للاستراتيجية العسكرية ومدرباً في الأكاديميات الدفاعية والأمنية، أي أنه يجمع ما بين القراءتين، العسكرية، المستندة على تجارب عملياتية، والأكاديمية. وقد طرح الكتاب أسئلة كثيرة تعلقت بتاريخ المنطقة وسياستها وجيوسياسيتها، وكان مما ألقى عليه الضوء سؤال حول علاقة فرنسا بحلف الناتو، كمثال للعلاقة المعقدة التي تربط الدول الأوروبية بالحلف.
في السابع من مارس 1966 أرسل الرئيس الفرنسي شارل ديغول رسالة إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون، عبّر فيها عن نية فرنسا تجميد المشاركة ضمن القيادة العسكرية للحلف. رأى محللون أن السبب في هذا تشكّك ديغول في جدوى الحلف ونسبة الوثوق في القيادة الأميركية، وفي الضمانات المقدمة لإنقاذ أوروبا في حال تعرّضها للخطر. كانت تلك خطوة جريئة وتاريخية، من نتائجها نقل مقر الحلف من باريس إلى موقعه الحالي في بروكسل، وبقاء فرنسا خارج نطاق القيادة المشتركة وقتا طويلا امتد حتى عملية غزو العراق في عام 2003.
آيفند أسترود، وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة أوسلو ومشارك آخر في الكتاب، فضّل التركيز، عوضاً عن أسباب سعي فرنسا إلى النأي بنفسها عن الحلف، على أسباب عودتها القوية التي جعلت منها الداعم الأهم لكل تحرّكات الحلف وعملياته الخارجية، وهو ما لخّصه في إحساس فرنسا بحاجتها لأن تعمل ضمن فريق، نظراً إلى تصاعد المخاطر الداخلية والإقليمية والعالمية، ابتداء من الإرهاب ونهاية بالخطر الروسي وتمرّد دول المستعمرات الإفريقية السابقة، التي لم تكن تجرؤ على التدخل العسكري فيها من دون توفر مظلة الحلف العسكرية.
يمكن النظر إلى الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، صاحب رؤية معاكسة لسلفه ديغول، فقد كان الأخير مؤمناً، ربما بشكل غير واقعي، بقدرة فرنسا على الاعتماد على نفسها من دون الدخول في حلفٍ تكون فيه خاضعة لإرادة غيرها، أو إذا ما كان لابد من الانضمام لحلفٍ ما، فيجب أن يكون أوروبيًا، وأن تكون فرنسا أهم ثقل فيه، بما يجعل ذلك الحلف بمثابة المعسكر العالمي الصاعد الثالث. في المقابل، كان ساركوزي، الذي عمل على استعادة فرنسا مكانتها بين دول الحلف أكثر براغماتية وتواضعاً، وهو يرى أن أمامه تحدّيات استراتيجية كثيرة، ليس من بينها الدخول في تحدٍ مع الأميركيين.
في الوقت ذاته، كان الفرنسيون يحاولون نفخ الروح في مؤسسة الاتحاد الأوروبي، بحيث تكون بديلًا مستقبلياً للتحالف الأطلسي، وهو الأمر الذي واجهته صعوبات، خصوصا على صعيد التنسيق العسكري والاتفاق على مضاعفة الميزانيات الخاصة بالدفاع والعسكرة، حيث كانت الدول الأوروبية، في معظمها، تكتفي بالدخول تحت مظلة الحماية الأطلسية – الأميركية، وهو ما يجعلنا نلاحظ التناقص في عدد القوات والميزانيات المخصّصة للدفاع خلال العقود الأخيرة، وهو أمر تكاد تشترك فيه جميع الدول الأوروبية.
يرى أسترود أن تأثير فرنسا على حلف الناتو بشكلٍ يجعل ذلك الحلف يتماهى مع مصالحها ظهر بشكل بارز إبّان التدخل العسكري في ليبيا، والذي كان، مع كل المبرّرات الأخلاقية التي وضعت له في حينه، مجرّد رغبة فرنسية.
ويلفت أسترود إلى شيء آخر، أن فرنسا كانت تودّ على الدوام أن تنأى بنفسها عن الدخول في مواجهة مع روسيا، حتى إبّان الحرب الأولى، وهو ما يبدو سياسة ثابتة، لأننا رأينا أن الموقف الفرنسي هو الأكثر سيولة، منذ بداية الأزمة الأوكرانية الحالية، فهو يساند أوكرانيا، لكنه يأمل في النقاش والتسوية مع روسيا، ويرى أن العقوبات المكثفة عليها ليست حلاً.
في هذه النقطة، يمكن تشبيه زيارة الرئيس ماكرون روسيا في خضم الأزمة الأوكرانية بزيارة ديغول الاتحاد السوفييتي عقب بضعة أشهر من قرار فرنسا الخروج من قيادة “الناتو” المشتركة.
ولد مع ديغول مبدأ “الاستثناء الفرنسي”، الذي كان يعتبر أن على فرنسا أن تتحلّى ببعض الاستقلال، حينما يتعلق الأمر بالدفاع. في مرحلة ساركوزي وما بعدها، خفت الحديث عن حالة الاستثناء هذه، لكن فرنسا ظلت تظن أنها تمتلك مناطق نفوذ يجب أن يسمح لها بحمايتها، وهي مناطقُ تبدأ بجنوب المتوسط وبأجزاء واسعة من العالم العربي والقارّة الإفريقية. بعد هجمات عام 2015، ووصول الإرهاب إلى العمق الفرنسي، وجدت فرنسا نفسها مجبرةً على التدخل بقوة لمواجهة “تنظيم الدولة الإسلامية” في العراق وسورية، حماية لأمنها القومي، وهو ما جعلها تدخل في صراع حول النفوذ مع قوى إقليمية أخرى كتركيا، كما جعلها مجبرةً على التنسيق مع روسيا.
وفق الرؤية الفرنسية، تتوالد الجماعات الإرهابية في أماكن الصراعات، وتنتقل منها إلى أوروبا، وخصوصا فرنسا، لتنفيذ عمليات، وهو ما يحتم التدخل وملاحقة تلك الجماعات في أماكن نشوئها. ذلك أمرٌ تكتنفه الصعوبة إذا قامت به دولة واحدة من دون تنسيق أو “تحالف”، بشكل ما، مع غيرها.
*كاتب ودبلوماسي سابق من السودان
تعليقات الزوار ( 0 )