عادت الرياضة المغربية من “غزوة باريس” بأقل من خفي حنين، ولا مبالغة في هذه الخلاصة، التي قد تسلط الضوء على كثير من المفارقات والتناقضات التي أصبحت عادية في الواقع المغربي.
أول هذه التناقضات، حالة الهوس بما يوضع من عناوين فرعية تحت العنوان الرئيسي : “تامغربيت”، التي كان مفروضا أن تتجلى في تنافس الرياضيين المغاربة على الميداليات في العديد والعديد من الرياضات، لكنها تحولت في الواقع إلى شعار أجوف، بل إلى دعوة صريحة للانغلاق والتقوقع على الذات، والانعزال عن المجال التاريخي والحضاري للمغرب..
ولحسن الحظ أن الحظ لم يحالف سوى سفيان البقالي في رحلة الصيف نحو باريس دون غيره من “الأبطال”، وإلا لحولتهم “تمغربيت” المفترى عليها، إلى ممثلي دواوير ومداشر وقرى، بدل أن يكونوا ممثلي دولة اسمها المغرب.
والغريب أن جماعة “الأمبراطورية المغربية” لم يفسروا لحد الآن، كيف أن جزيرة سانت لوسي التي يمكن أن تستوعب زنقة من أزقة الدار البيضاء كل ساكنتها، حققت نتائج أفضل من هذه “الأمبراطورية”.
أما التناقض الثاني، فيتمثل في اكتشاف البعض -على ما يبدو- لحجم الفساد الذي ينخر جميع فروع الرياضة في هذا البلد، مع استثناء رياضات قليلة، فقط لأنها محرمة على “أيها المواطنون”.
فمن يعرف أصلا، أسماء رؤساء الجامعات التي “مثلت” المغرب في الأولمبياد، الذين يطالب البعض اليوم بمحاسبتهم؟ ومن يستطيع أن يدعي أنه يتابع بطولات ودوريات الرياضات التي تشرف عليها هذه الجامعات؟
والعجيب أكثر، هو أن هذا الاكتشاف المتأخر، أظهر فقط جهلا بواقع التسيير الرياضي الذي لا يختلف كثيرا عن اساليب تدبير الجماعات الترابية، التي أصبحت قبلة للمفسدين في الأرض.
فمعظم من يتصارعون على رئاسات الجامعات الرياضية، هم نسخة غير منقحة من الكائنات التي تتصارع على رئاسات مجالس الجماعات .
فماذا يمكن أن نتوقع من هذه العينة من المسيرين سوى الفشل والفضائح؟
والغريب في الأمر، أن الفشل طال حتى الرياضات التي كان المغرب تقليديا يسجل حضوره فيها، ليس بفضل “الجدية” و”حسن التدبير” بل بفضل جد واجتهاد أبناء الفقراء.
ولا تحتاج نماذج ألعاب القوى والملاكمة، تحديدا، إلى كثير من الشرح والتفسير والتذكير..
أما التناقض الثالث فيتمثل في أن “الدولة” لا تنظر إلى الرياضات حتى كمجالات موفرة لفرص الشغل ومدرة للدخل، فأحرى أن تنظر إليها كأداة من أدوات “القوة الناعمة” التي يمكنها أن تفتح كثيرا من الأبواب المحكمة الإغلاق، بل إن الدولة لم تبن على إنجاز مونديال قطر، الذي تحول بعد أقل من سنة إلى مجرد ذكرى “لذيذة” غطت عليها نكسة “الكان”.
ربما يشهر بعض “العياشة” ورقة قلة الإمكانيات المادية، لكن كيف يفسر هؤلاء تألق كثير من الأبطال في دورات سابقة رغم أن الجامعات يومها، لم تكن تتوفر حتى على عُشر الإمكانيات المتوفرة حاليا؟
أليس غريبا أن تعجز “الدولة المغربية” مثلا، عن توفير أجرة مدرب كوبي يشرف على منتخب الملاكمة؟ وهل تعجز عن رعاية وتطوير مواهب “طبيعية” في المسافات المتوسطة والطويلة في ألعاب القوى؟
بل، وهذه هي الكارثة العظمى، كيف يعقل ألا يتوفر المغرب بشواطئه الممتدة على مئات الأميال، على أبطال عالميين في السباحة، والحال أن آلافا مؤلفة من الشباب تتوفر على مؤهلات تحتاج فقط إلى الصقل؟
أما المفارقة الرابعة، فلا تخص الرياضة فقط، بل تطال كل المجالات.. وعنواها : العشق الأبدي للمنطقة الرمادية.
لقد عجز المغرب “المستقل” حتى الآن عن مغادرة هذه المنطقة التي حبس نفسه فيها، فلا هو ديموقراطية كاملة، ولا هو ديكتاتورية بوجه مكشوف، ولا هو اقتصاد حر، ولا هو اقتصاد موجه، ولا هو دولة شرقية، ولا هو دولة غربية.. ولا هو حداثي، ولا هو محافظ أو رجعي.. وقس على ذلك..
إن هذه الازدواجية التي يعتبرها البعض “ميزة” و”خاصية” و”خصوصية” تزكي ما يعرف بـ”الاستثناء المغربي”، هي في واقع الحال دليل على حالة من الفصام الناجم عن الفشل في اختيار طريق والسير فيه وتحمل تبعات هذا الاختيار.
ولتبسيط الفكرة هنا، يمكن أن نشير إلى التنافس الحاد بين أمريكا والصين، حول صدارة جدول الميداليات، والذي استمر حتى اللحظات الأخيرة من أولمبياد باريس.
فأمريكا دولة ليبرالية “ديموقراطية” تقوم على حرية المبادرة، والرياضة بالنسبة إليها تجارة وصناعة وسياسة، ومنصة من منصات استعراض القوة، ولذلك توفر لها إمكانيات ضخمة.
وبالمقابل فالصين دولة شمولية، لكن الرياضة بالنسبة إليها حلبة للصراع فوق-الرياضي، ولذلك تسخر إمكانيات هائلة لصناعة أبطال أولمبيين حتى لو تطلب ذلك تجنيد العلماء لاكتشاف منشطات تراوغ أجهزة وكالة محاربة المنشطات.
ولا حاجة هنا للتذكير على سبيل الاستئناس، بالحروب الاستخباراتية الضارية التي كانت مخابرات “الاتحاد السوفياتي” تخوضها لضمان الريادة عالميا في رياضة الشطرنج.
فالمغرب لا هو سار على نهج أمريكا، ولا سار على خطى الصين.. لهذا هناك دائما رهان على أن ينجح “صدفة” فرد من سكان “درب الفقرا” بمجهوده الخاص، ليركب الجميع على هذا الانجاز.. ويتخاطف الدخلاء والانتهازيون والسماسرة الأضواء..
أما التناقض الخامس والأخير الذي أختم بهذه هذه الوقفة السريعة، فيتمثل في المقارنة غير المستقيمة، التي أجراها البعض بين “نجاحات” جامعة كرة القدم، وفشل بقية الجامعات.
لا أريد هناك الوقوف عند السجال العقيم الدائر بين “حزبي” موالاة ومعارضة فوزي لقجع، بل أكتفي بالسؤال التالي: هل هي نجاحات لكرة القدم، أم للمنتخب الوطني؟
وهذا سؤال محوري، لأن المؤكد لحد الآن، هو أن “المغرب” اليوم لا يستطيع تقديم منتخب مشكل من منتوج خالص للبطولات المحلية، فمن يصنع أمجاد المنتخب حاليا، هم مغاربة العالم.
وهذا ما يفسر الاقتراح “الكاريكاتوري” الذي روجه البعض كحل لحالة العقم التي طالت جميع الجامعات، والمتمثل في العمل على “إقناع” أبناء الجالية المتفوقين في الرياضات الأولمبية بالدفاع عن العلم المغربي، بحيث تجني الجامعات الفاشلة ثمار جد واجتهاد نظيرتها الأوروبية..
ويمكن أن أضيف من كيسي اقتراحا أكثر كاريكاتورية يتمثل في اعتماد تجنيس المواهب الإفريقية، ولو أن الأمر سيكون مكلفا جدا بما أنه يتطلب منافسة بعض الدول الخليجية الغنية جدا.
وأختم بملاحظة وقناعة شخصية..
أما الملاحظة فهي عبارة عن تساؤل حول سر تراجع جميع الرياضات في المغرب، رغم توفر الإمكانيات المادية والبشرية، والتجهيزات والبنيات التحتية؟
وأما القناعة الشخصية فتتمثل في أنه لا يمكن لبلد متخلف سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا وثقافيا وفنيا… إلخ.. أن يتفوق في الرياضة، لأن ذلك يعاكس منطق التاريخ…
والأنكى من ذلك عندما يتصدى للتسيير الراضي الفاشلون …
تعليقات الزوار ( 0 )