Share
  • Link copied

عميل سري بريطاني في ضيافة السلطان: رصد حركة البلاط المغربي وتنبّأ بالكارثة

المغرب ـ أوروبا… صور وتمثيلات

نشطت الرحلات الأوروبية إلى المغرب منذ القرن الثامن عشر، قام بها دبلوماسيون وسفراء وعسكريون وأطباء وكتاب وصحافيون أكفاء وجواسيس مغامرون ومتنكرون شديدو الحذر والتوجس ودقيقو الملاحظة، تحركهم في الغالب نوازع وأهداف استكشافية واستخباراتية، وفق المهام الموكولة إليهم، ويرسلون تقاريرهم بتمويل ومباركة حكومات بلادهم من القوى الإمبريالية لتمهيد الطريق إلى استعماره. وكانوا يُضمّنون تمثيلاتهم السردية صنوفا من نزعتهم المركزية الاستعلائية التي تأسر الإنسان المغربي وثقافته ومعتقداته، في أحكام مسبقة دونية وصور كليشيهية تحقيرية وغرائبية. وقد ظهرت هذه الرحلات بلغات أصحابها الأصلية في فترات متباعدة من تاريخ المغرب الحديث خلال القرنين الأخيرين، وأدت وظائفها وأغراضها الموكولة إليها على نحو من الأنحاء، إلا أن ترجماتها إلى العربية في الفترة الأخيرة مكّن المغاربة من التعرف على جوانب من تاريخ بلدهم المسكوت عنه أو المنظور إليه من زاوية استشراقية وغير رسمية؛ بعيون سويدية وبولونية وسويسرية وألمانية وهولندية وإسبانية وإنكليزية وفرنسية، وذلك لفهم ما حصل قبل استعماره وتكالب القوى الإمبريالية عليه. كما حفزت الباحثين على العودة إلى هذا التاريخ وقراءته بأدوات معرفية جديدة، سياسية وأنثروبولوجية وثقافية. ومن بين هذه الرحلات: «رحلة إلى مكناس» لجون وندوس 1721 و»وصف الاستعباد في مملكة فاس» لماركوس بيرغ 1754 و»رحلة في إمبراطورية المغرب في 1791» ليان بوتوتسكي و»مراسلات جون دارموند هاي مع المخزن» 1846-1886 و»رحلة داخل المغرب» مارس/آذار و»أبريل» 1877 لديكيجي، و»التعرف على المغرب» 1883 لشارل دو فوكو، و»رحلات عبر المغرب» لعلي باي (دومينغو باديا) ما بين عامي 1803-1807، و»مراكش: قبائل الشاوية ودكالة والرحامنة» سنتي 1901-1902 لإدموند دوتي و»في صحبة السلطان» ( 1901 – 1905 ) لغابرييل فيير، و»رحلة إلى المغرب» لأندريه شوفريون 1905، وغيرها.

بغض النظر عن طبيعة المحتوى الرحلي المبني على سرديات التفوق والاستعلاء، فإنّ مادة الرحلات ـ كما يرى المفكر المغربي كمال عبد اللطيف – تندرج ضمن مواد بناء أحداث التاريخ بحكم ما تحتويه من معطيات، كما تمكن لغاتها، السردية، الواصفة، الانطباعية، الموضوعية والذاتية، من مشاهدة صور تداخل الوعي في الكتابة؛ وهو ما يحول مثل هذه الرحلات إلى «مادة فكرية مواتية لرصد تحولات الأفكار، في علاقاتها بصيرورة الوعي وتحولات المجتمع، في زمن تبلورها، خاصة عندما يرتبط زمن صدورها بأزمنة الصراع بين المجتمعات».

عميل لثلاثة سلاطين

تعد رحلة والتر هاريس المسماة: «المغرب الذي كان» (ترجمة حسن الزكري، منشورات سليكي أخوين 2022) التي نُشرت عام 1921 باللغة الإنكليزية تحت عنوان (Morocco that was) ضمن أهمّ الرحلات الأوروبية إلى المغرب؛ لاعتبارين رئيسين: أوّلاً، لأن صاحبها كان قريباً من مركز القرار السياسي في المغرب، وعاصر ثلاثة سلاطين: الحسن الأول، مولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ، فقضى أشهراً طويلةً في البلاط، وساعد كل ذلك على الاطلاع الواسع وفهم ما يجري من شؤون الحكم ودواليبه الخاصة. وثانياً، لأن المرحلة التي غطاها بين عامي 1887 و1921، كانت مفصلية في تاريخ البلد، وعاصفة بالأحداث والدسائس والمؤامرات وأعمال الفتنة والتمرد والنهب، قبل أن تؤدي إلى فقدان استقلاله وسقوطه في قبضة القوى الاستعمارية الغربية عام 1912.

نزل هذه الرحالة الإنكليزي (1866- 1933) في طنجة وهو بعد في الواحدة والعشرين من عمره، وأتاح له عمله صحافيا في جريدة «التايمز» أن يوطد علاقاته مع الدوائر الدبلوماسية الأوروبية، ويوجه تقاريره السرية إلى رئيسه المباشر السير إرنست ساتو القنصل البريطاني في طنجة ذات الوضع الدولي، ومنه إلى وزارة الخارجية البريطانية. كما كان يتعاون مع سلطات الحماية الفرنسية، ويقدم معلومات إلى الحكومة الإسبانية، طوال مقامه متنقّلاً بين طنجة وعواصم الحكم الثلاث (مراكش، فاس، الرباط). مثلما أتاح له اقترابه من حاكمي البلاط المغربي ومختلف دوائر السلطة المخزنية، أن ينسج علاقات مع مكونات المجتمع المغربي، موظفين سامين، زعماء القبائل، شيوخ الزوايا الدينية، جنود الجيش النظامي، العبيد السود، اليهود، الأسر الأرستقراطية في فاس وغيرها، التجار، اللصوص وقطاع الطرق، عموم الناس… ولهذا، يختلط في متن الرحلة السرد الصحافي بالتقرير الاستخباراتي الدقيق، وتتعايش داخله الواقعة التاريخية مع أطياف من النظرة المتمركزة حول الذات وشعورها بالتفوق الغربي، بل إنّ الرحالة نفسه ـ كما عرفه أقرباؤه – يجيد اختلاق القصص ويرى أن الحبكة الجيدة يفسدها التقيد التام بالحقيقة، فيبقى السؤال إذن: هل ما يرويه في الكتاب «المغرب الذي كان» حقيقة أم خيال؟

بدأت رحلة هاريس حين رافق بعثة الوزير المفوض السير وليم كربي غرين إلى بلاط الحسن الأول في مراكش سنة 1887، وكان أواخر حكمه مضطربا تحت تأثير تمرد قبائل الجنوب. يرصد جشع حاشيته وسلوك جيشه «الغوغائي» وممثلي المخزن الذي يجبرون الأهالي على دفع الرشاوى والأموال أثناء الحملات العسكرية، ويظهر افتتانه العجيب وهو يرصد مشاهد من الطقوس والتقاليد السلطانية داخل باحة القصر الفسيحة. ورغم حجم الفساد الذي كان ينخر دولة الحسن الأول، إلا أنه كان يعطي للعالم الخارجي انطباعاً عن «صورةٍ لبلد عظيم الهيبة والمكانة». كان المغرب في هذا الوقت «مجهولاً» ويعيش حياته منعزلاً، فلم تكن أوروبا تولي اهتماماً كبيراً لما يجري داخل حدوده، ثم توالت البعثات الخاصة التي كانت توفدها حكوماتها إلى السلطان الذي كان يستقبلهم وفق مراسم «مهينة»؛ حيث يُستقبلون كتابعين جاؤوا لتقديم الإتاوة، ويقفون حاسري الرؤوس تحت أشعة الشمس، وهو راكب حصانه ويستظلّ مظلة قرمزية، ووسط مشاعر المغاربة لحد الكراهية التي كانوا يكنّونها للأوروبيين «النصارى» وذلك قبل أن يطفو إلى السطح التنافس عليه بين فرنسا وإنكلترا، إلى جانب المناوشات والحروب المحلية الصغيرة لإسبانيا مع القبائل المحدقة بقواعدها على الساحل الشمالي.

يموت السلطان، وبترتيب من حاجبه أحمد بن موسى، المعروف بلقب باحماد، انتقل الحكم إلى أصغر أولاده مولاي عبد العزيز، وهو فتى يافع في سن الثالثة عشرة عام 1894، وكان «لا همّ له سوى اللعب واللهو». ظل السلطان الجديد معزولاً داخل قصره، ولم يكن يظهر لشعبه إلا في أوقات الاحتفالات بالأعياد الدينية والمناسبات المختلفة، إلا أن الصدر الأعظم باحماد هو من «كان يحكم المغرب بمفرده». لكن مثلما تآمر على خصومه السياسيين؛ مثل الأخوين الحاج المعطي ومحمد الصغير، الذي انتهوا بطريقة مريعة، سيلقى باحماد المصيرَ نفسه وشيعه الناس إلى مثواه الأخير بالسباب واللعنات، وصودت جميع أملاكه بموجب مرسوم سلطاني.

تعرف هاريس على السلطان مولاي عبد العزيز عام 1902، وتوطدت علاقته الشخصية به، وأتاح له ذلك أن يجالس السلطان ويعيش حياة القصر ومجالسه وموائده، حتى اجترأ أن يصارحه في بعض شؤون الحكم؛ كأن يحثّه لإجراء تغيير على مراسم استقبال ممثلي القوى العظمى، أو يلمح إلى إشرافه الشديد على عروض الألعاب النارية التي كان يقيمها داخل قصره، وغيرها من المتع ووسائل الترفيه (المفرقعات الملونة، الدراجات، أدوات التصوير، عروض السيرك..) التي كان يحيط نفسه بها ويقتنيها من أوروبا بأثمان باهظة ومكلفة لخزانة الدولة، على نحو أدى إلى مزيد من القروض الأجنبية، في حين كان الناس وأفراد جيشه يعانون البؤس والجوع ويرزحون تحت نير حاشيته من ممثلي المخزن الجشعين الذين كانوا يسكتون عن الفساد ولا ينصحونه بشيء، لأن مصالحهم تقوم على استمرار حالة الفساد الذي يجنون من ورائه ثروات طائلة. لكن هاريس كان يتنعم وسط هذا البهرج الكبير، وإن حاول في قرارة نفسه أن يقنع صديقه السلطان بقرب الكارثة إذا استمرت الأحوال على ما هي عليه: «طوال الأشهر العديدة التي قضيتها في البلاط المغربي، كان دائماً يخامرني شعور بأن الكارثة مقبلة لا محالة.

فمن الواضح أن السلطان كان ينساق انسياقاً نحو الهاوية». وسط ازدياد حجم الفساد، وازدياد الأطماع الاستعمارية الغربية والتنافس الإمبريالي، وكانت الثورات وعمليات التمرد بدورها تطل برؤوسها من كل جانب، ويقودها زعماء القبائل؛ وفي طليعتهم زعيم قبيلة الرحامنة الطاهر بن سليمان، الذي وصلت ثورته إلى أسوار مراكش قبل اندحاره وإبادة قبيلته بكاملها. وفي فاس ثار عليه عمر الزرهوني المعروف بلقب بوحمارة، الذي ادعى بأنه مولاي محمد الابن البكر للحسن الأول، وسعى للفتنة بين القبائل حتى ألحق هزيمة بالجيش الذي يقوده عم السلطان، وحكم شرق البلاد لعدة سنوات، قبل أن يُعدم بالرصاص في ما بعد. وكان الريسوني بدوره قد بسط نفوذه على القبائل الجبلية وكبد الجنود الإسبان خسائر مدوية، وتعرض هاريس نفسه لعملية اختطاف من طرف أتباعه قبل أن يفرج عنه مقابل إطلاق سراح بعض السجناء من أبناء القبائل، إلا أنه بعد المفاوضات التي جرت بين الريسوني، ومولاي عبد الحفيظ في فاس، جرى تعيينه حاكما على القبائل الشمالية الغربية مقابل تنازله عن الحماية البريطانية: «كان الأمن منعدماً في كل مكان، والبلاط فقد هيبته» على حد قول هاريس، الذي اعترف بأنه لم يعد مرغوباً فيه بعد «الحملة» التي كان يقوم بها كمراسل لصحيفة «التايمز» وأن أهل فاس تعاطفوا معه وأكرموه لأنه لفت العالم إلى محنتهم من خلال ما كان ينشره من مقالات في هذه الصحيفة ذائعة الصيت.

وفي عام 1908 ظهر أخوه غير الشقيق مولاي عبد الحفيظ الذي رفع راية التمرد في جنوب المغرب، وأعلن نفسه سلطاناً، احتجاجاً على إسراف مولاي عبد العزيز وبذخه، وارتباطه بالأوروبيين الذين امتلأ بهم البلاط، وضعفه في إدارة شؤون البلاد. وبعد بضعة أشهر من الحرب بينهما، تنازل مولاي عبد العزيز عن العرش لصالح أخيه الذي بايعه أهل فاس. أظهر في سنوات حكمه الأربع الأولى روحاً وطنية عالية للحفاظ على استقلال البلاد، لكنه سرعان ما أدرك استحالة المهمة.

في هذه الظروف التي حملت أسوأ النذر واستغلّها «وسطاء التجارة» بدناءة، بادرت فرنسا وإنكلترا إلى اتفاق يسمح للأولى بالتدخل في شؤون المغرب بشرط عدم المساس بالمصالح والامتيازات التجارية البريطانية، إلا أن هذا الاتفاق جلب روحاً عامة من الاضطرابات في البلاد، ثم انعقد مؤتمر دولي حول المسألة المغربية عُرف بمؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906، وكانت القوى العظمى على وشك أن تخوض حرباً حول المغرب، إلى أن صدرت نتائج المؤتمر التي بموجبها جرى تقرير مصير المغرب كمستعمرة أوروبية بين فرنسا وإسبانيا.

كان المخزن يمرّ بأوقات عصيبة، وعمليات التمرد والفوضى والسرقة تنشط في أكثر من مكان، وفي الأشهر الأولى من عام 1912 حاصرت قبائل فاس مولاي عبد الحفيظ الذي أخذ يعامل معارضيه والمتمردين على حكمه بقسوة، فقام باستصراخ الفرنسيين المتمركزين في الدار البيضاء بعد قصفها عام 1907، الذين فكوا الحصار عنه. ولم يمرّ إلا وقت قليل حتى جرى التوقيع على معاهدة الحماية الفرنسية، وقرر السلطان بعد سلسلة مفاوضات كان يشارك فيها والتر هاريس نفسه، أن يتنازل عن العرش لأخيه مولاي يوسف، أو بالأحرى لرجل الحماية القوي الجنرال ليوطي، وينتقل للعيش في طنجة بين جحفل من حاشيته وخدمه.

وقوع الكارثة

كان هاريس الذي تنبأ بوقوع الكارثة، بدا وهو يُهلل بما حدث ووصف بداية الاحتلال الفرنسي للمغرب بأنها «نهاية قرون من الوحشية والفساد والاستبداد»؛ وهو ما يعكس الدور الاستخباراتي الخطير الذي قام به لدى القوى العظمى (بريطانيا، فرنسا، إسبانيا) في ما كان يتحوط من الألمان الذين كان قنصلهم في طنجة خارج الإجماع الإمبريالي. كانت تقاريره تُرسل إلى من يعنيهم الأمر دون الكشف عن هويته، وكتب يعترف: «وأنا لم أدرك أبداً مدى أهمية العمل الذي قمتُ به في هذا الصدد إلا بعد أن شرعت في تأليف هذا الكتاب، وبعد أن وقفت على المراسلات الضخمة التي بعثها إليّ الوزراء البريطانيون المتعاقبون، والتي اهتمت بكل صغيرة وكبيرة تتعلق بالمغرب».

Share
  • Link copied
المقال التالي