شارك المقال
  • تم النسخ

علي الإدريسي يكتب: انتخابات 8 شتنبر وسيكولوجية “متلازمة ستوكهولم”

طُرحت أسئلة صحافية وتساؤلات من قبل الرأي العام، خلال السنوات الثلاث الماضية، تخص المصير السياسي للكاتب العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، بعد ردة فعله المناهضة للمعارضين لمشاريعه وتجارته، عقب تعرض شركاته للانتقاد والمقاطعة، وخاصة شركته للمحروقات “أفريقيا”، وتعرض بعض خططه العقارية والسياحية للهدم بسبب مخالفتها للقانون وللذوق العام المغربي، وكذا تصريحاته أمام الجالية المغربية بميلانو الإيطالية سنة 2019، المتوعِّدة للمنتقدين والمعارضين المغاربة، حين أوضح أنه: لا مكان في المغرب لمن ينتقد السلطة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بإعلانه أنه سيعيد تربيتهم (عقابهم)، وأنه لا يكتفي بدور القضاء. 

علي الإدريسي

ويعلم الجميع أن وعيده للمغاربة المعارضين عرف استنكارا واستهجانا واسعين من قِبل الرأي العام، ورأى بعضهم أن تصرفات الكاتب العام لحزب التجمع سيؤثر سلبا على مستقبله السياسي. لكن نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021 جاءت مغايرة للتوقعات حين توَّجَته على رأس الفائزين بمنصب رئيس الحكومة، وفقا للمنهجية الدستورية؛ ويمكن أن يكون هذا التتويج تفويضا من أغلبية الكتلة الناخبة من أجل تحقيق وعيده بطرد المغاربة الذين يعارضون سياسة تدبير شؤون المغرب من وطنهم، أو إعادة تربية من يختلف رأيه السياسي معه.  

 ما حدث في المغرب في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين لم يكن الرأي العام يتوقعه أن يصدر من زعيم حزبي ينشط وفق دستور المملكة؟ فقد كنا نعتبر مثل هذه “السياسات” بأنها تعود إلى أزمنة غابرة في التاريخ. فمثلا، يُروى في تراث سياسة دولة قريش الإسلامية أن الخليفة الأموي، أمير المؤمنين، عبد المالك بن مروان (تـ 86هـ) دعا أحد العلماء، المعروفين بمناهضة سياسة العنف والتقتيل التي كان يقودها وليه على العراق، الحجاج بن يوسف الثقفي (تـ 95 هـ).  

 استبشر الناس، أو الرعية، بأن الخليفة دعا العالِم ليعرف منه سيرة الحجاج نحو رعيته. وكانت الرعية مقتنعة بأن الخليفة عبد المالك بن مروان سيعاقب الحجاج بعد اطلاعه على فظاعة “سياسته”، وابتعاده عن تطبيق دستور الحكم في ذلك الزمان، المتمثل في قيم الإسلام التي كان الخليفة يحكم باسمها، والتخلي عن العدل والإحسان اللذين أمر بهما القرآن الكريم، الناهي “عن الفحشاء والمنكر والبغي” في سياسة الرعية. وفعلا قام العالم بما كان يجب عليه إزاء حماية الناس من ظلم الوالي الحجاج. 

وبعد انتهاء زيارة العالِم إلى مقر الخلافة، طلب الخليفة من الحجاج القدوم إلى مركز الخلافة بدمشق؛ فاستجاب المطلوب لطلب الخليفة مضطرا ومذعورا. لكن استقبال الخليفة له كان مغايرا تماما لظنونه؛ فقد كان استقباله في غاية الحفاوة والإشادة به وبسلوكه في حكم الرعية. 

 اندهش الحجاج، فاضطر إلى استفسار الخليفة عن هذه الإشادة التي لم تكن منتظرة، متسائلا: هل ما يروج من تقرير العالِم ضد ممارستي في حكم الرعية غير صحيح؟ فأجابه الخليفة: بأن ما قدمه العالِم لا يعجبه هو كعالِم وكممثل لمعاناة الرعية، ولكنه لم يدرك أن ما رواه لي عنك أعجبني وأسرني أيما سرور، ورفع “شأنك” عندي. 

 حضرتني هذه الرواية بأبعادها التي تتحدث عن الفرق بين انتظارات الشعب، أو الرعية، وبين منطق الحكم السلطوي في معاملة الرعية في بلدان كثيرة حتى الآن، على الرغم من مرور زهاء 14 قرنا على ما يُروى عن الروابط التي كانت تحبب الخليفة الأموي في وليه الحجاج الشهير بفظاعته في حكم الرعية. ولا يزال كثير من الشعوب تعاني من سلوك بعض الحكام بتزكية رؤساء دولهم أو بتزكية من صناديق الانتخاب؛ والأمثلة معروفة شرقا وغربا. 

 وفي زماننا المغربي المعاصر فإن المثل الشهير في مغرب النصف الثاني من القرن العشرين، أي في زمن الاستقلال والدولة الوطنية، هو الوزير إدريس البصري الذي يعرف عصره بـ”سنوات الجمر والرصاص”.  

لكن المغارية اعتقدوا، منذ بداية الألفية الثالثة، بأنهم وصلوا إلى دولة القانون وتجاوزوا سنين الجمر والرصاص، وخاصة بعد دستور 2011 الذي ركزت مواده على تحقيق دولة المؤسسات؛ ولم يكونوا يعتقدون بأن يكون كاتب عام لحزب مغربي، يتولى، خلال عقد من الزمن حقائب الفلاحة معاش أغلب المغاربة، والبحر بثروته السمكية الكبيرة، والتنمية القروية المأمولة، والمياه، والغابات، أن يخلف ادريس البصري بإعادة إحياء سياسته وطريقة حكمه؛ بل راح يتوعّد المغاربة الذين لهم آراء مختلفة في ممارسة الحكم بإعادة تربيتهم. وجاء الوعيد في أواخر سنة 2019، ومن خارج تراب المملكة في مدينة ميلانو الإيطالية، حين أعلن أمام الجالية المغربية بإيطاليا أن المنتقدين لسياسة الحكم في المغرب ليس لهم مكان في ترابه، قبل أن يوضح قصده بالدارجة المغربية قائلا: “ماشي غير العدل (القضاء) اللّي غايدير خدمتو، حتى المغاربة خاصهم يديروا خدْمتهم؛ المغاربة لِمَمْربيينْش خصنا نعاودو ليهم التربية”. وتعني الجملة: ليس القضاء وحده الذي سيقوم بعمله، بل يجب على المغاربة أن يقوموا بعملهم بإعادة تربية المغاربة الذين لم يتربوا؛ و”التربية” في الثقافة المغربية السائدة تعني العقاب. 

وعيد رئيس حزب التجمع بإعادة تربية المغاربة، (عقابهم)، لم يؤيدها عاهل البلاد، وإنما أشاد بها وأيدها عمليا جزء مهم من الناخبين المغاربة في انتخابات 8 شتنبر 2021، إذ جعلوا حزبه يتصدر قائمة الأحزاب الفائزة؛ وجعلوه بذلك يستحق رئاسة الحكومة المغربية للسنوات الخمس القادمة، وفقا للمنهجية الدستورية، وقد عينه الملك محمد السادس فعلا لرئاسة الحكومة المغربية.  

 وها نحن نرى أن من أشاد، هذه المرة، بالذي أنذر المغاربة الذين لهم رؤية مختلفة عن رؤية السلطة بعودة “سنوات الجمر والرصاص” هم الرعية أنفسهم، من خلال صناديق الانتخاب؛ على الرغم من أن الحقائب الوزارية التي تولاها المعني بالأمر ورفاقه في الحزب، خلال العقد الماضي كانت تهم الاقتصاد الوطني وأهم مصادر معيشة المغاربة. أما عاهل البلاد فأكد في أكثر من مناسبة بأنه ملك لكل المغاربة، كما أن دستور المملكة يحمي مؤيدي السلطة ومعارضيها في الوقت نفسه على حد سواء. وأكد دستور المملكة، وقوانينها التنظيمية، والسلطة القضائية، هي الفيصل في ما هو غير متوافق بشأنه. 

فهل يسمح المُعيَّن لرئاسة الحكومة المغربية أن يقدم لنا موقفه بوضوح من الدمقراطية، ومن دولة الحق والقانون، ومكانة المؤسسات التي نص عليها الدستور في سلوك حكومته؟ وهل لا يزال الكاتب العام للحزب المعني ملتزما بإعادة تربية المغاربة، تطبيقا لما جاء في خطابه أمام مغاربة العالم في إيطاليا؟ 

ونطالبه بتحديد رأيه ورأي حزبه في مصطلح المعارضة في المغرب؛ المعارضة التي أكد دستور 2011 للمملكة حقها في حرية الرأي والتعبير، وبخاصة الفصل العاشر الذي نص من بين ما نص عليه حماية:  

حرية الرأي والتعبير والاجتماع… ومساءلة الحكومة، والمشاركة في اللجان النيابية لتقصي الحقائق؛ وأن الدستور يخولها “رئاسة اللجنة المكلفة بالتشريع بمجلس النواب”؛ كما أنها من حقها  “المساهمة الفاعلة في الدبلوماسية البرلمانية، للدفاع عن القضايا العادلة للوطن ومصالحه الحيوية؛ والمساهمة في تأطير وتمثيل المواطنات والمواطنين، من خلال الأحزاب المكونة لها، طبقا لأحكام الفصل 7 من هذا الدستور”. هكذا يعتبر دستور المملكة مساهمة المعارضة في سياسة البلاد مساهمة فعالة.  

 والسؤال الثاني، هل تُعدّ أصوات الذين صوتوا لصالح حزبك عربونا على إعادة تربية المعارضين، والتمييز بين الرعية الصالحة والرعية الطالحة، على غرار ما لجأ إليه المهدي بن تومرت في القرن الثاني عشر الميلادي الذي ابتكر كما هو معروف سياسة التمييز بين الموحدين وغير الموحدين، تطبيقا لخططه السياسية، أو أن الأمر يتعلق بسياسة التفتيش التي طبقها الإسبان ضد ثقافة المسلمين واليهود، عقب انهيار الأندلس؛ وبخاصة في القرن السادس عشر؟ أم أن سر التصريحات النارية للكاتب العام لحزب التجمع لا تعدو أن تكون مجرد ردة فعل غاضبة على المغاربة الذين قاطعوا شركاته وشركات بعض أصدقائه سنة 2018؟ 

 أشرنا في بداية هذا المقال إلى تحليلات واستخلاصات توقعت أن تؤثر تصريحات الكاتب العام لحزب التجمع وخرجاته سلبيا على مساره السياسي، لكن الناخبين المغاربة كان لهم رأي آخر، حين منحوا حزبه المرتبة الأولى في الانتخابات. فهل فعلا أن أولئك الناخبين لهم حنين إلى سنوات الجمر والرصاص، ويتمنون بالتالي إعادة تربية المغاربة الذين لهم رأي مختلف عن رأي الحاكم؟ أم أن سيكولوجية “متلازمة ستوكهولم” (Stockholm syndrome) كانت حاضرة بقوة في انتخابات شتنبر 2021؟؟.

*أستاذ جامعي ودبلوماسي سابق مقيم في كندا

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي