Share
  • Link copied

عقيدة الصدمة وجائحة السلطوية الرقمية: مشروع قانون 22.20 أنموذجا

على قدر الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحدثها الأزمات والكوارث الطبيعية والأوبئة والأضرار الصحية الناتجة عنها،فهي تعتبر بالمقابل بمثابة الظروف المثالية للحكومات والنخبة العالمية لتنفيذ أجندات سياسية كانت ستواجه معارضة كبيرة في الحالات العادية. 

إن هذه المسألة  ليست فريدة أو مرتبطة فقط بالأزمة الناجمة عن فيروس كورونا،بل  إنها السياسة التي اتبعها المسؤولون عن السياسات والحكومات في العديد من الدول منذ عقود والتي تعرف ب “مبدأ الصدمة”، وهو مصطلح صاغته الناشطة والمؤلفة “نعومي كلاين” في كتاب عام 2007 يحمل نفس الاسم “مبدأ الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، فالكثير من الأفكار والتدابير والإجراءات والقوانين تكون مستلقية وكامنة وتكون الأزمات فرصة ذهبية لتمريرها.

 إن “مبدأ الصدمة” هو الإستراتيجية السياسية لاستخدام أزمات واسعة النطاق لدفع السياسات التي تعمق عدم المساواة بشكل منهجي ، وتثري النخب ، وتقوض الجميع، تدرك النخب السياسية والاقتصادية أن لحظات الأزمة هي فرصتها لدفع قائمة رغباتها من السياسات غير الشعبية التي تزيد من استقطاب الثروة.ففي لحظات الأزمة، يميل الناس إلى التركيز على حالات الطوارئ اليومية للبقاء على قيد الحياة في خضم تلك الأزمة، أيا كانت التضحيات والتنازلات التي يقدمونها، ويميلون إلى وضع الكثير من الثقة في أولئك الذين هم في السلطة، وأظن أن طرح مشروع قانون 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة في المغرب في هذه الظرفية العصيبة يندرج ضمن هذا السياق فالكثير من المواطنين يعيشون على وقع صدمة فيروس كورونا و صدور قانون مجحف وغير عادل لن يكون من ضمن أولوياتهم ولن يحتجوا على فعل ذلك ،وبهذا فسلوك الحكومة  يفتقد إلى الأساس الأخلاقي المعقول في الوقت الذي نحتاج فيه في ظل هذه الأزمة إلى تعبئة الرأي العام والمواطنين بدل الزيادة في منسوب السخط والإحباط  ،وفعلها هذا مكشوف إلى حد كبير  ،حتى وان كانت تعتبر ذلك نوع من الدهاء السياسي.

إن من نتائج الصدمة القائمة بفعل أزمة فيروس كورونا أنه عملت مجموعة من الدول على تسريع استخدام تقنيات المراقبة الجديدة مادامت الشعوب منشغلة بأمنها الصحي،  إذ أضحت تتحرك بثبات نحو السلطوية الرقمية من خلال تبني النموذج الصيني للرقابة المكثفة وأنظمة المراقبة الآلية، ونتيجة لهذه الاتجاهات،هناك مخاطر أكيدة لانخفاض حرية الإنترنت العالمية آنيا ومستقبلا . وقد سبق لمنظمة فريدوم هاوسfreedom house   في تقرير لها أن حرية الإنترنت انخفضت للعام التاسع على التوالي حيث استخدمت الحكومات في جميع أنحاء العالم وسائل التواصل الاجتماعي لمراقبة المواطنين والتلاعب بالانتخابات ، ووفقًا لدراسة جديدة حذرت من زحف “السلطوية الرقمية”، تم العثور على ثلاث وثلاثين دولة من أصل 65 دولة شملها الاستطلاع لتجربة حرية الإنترنت المتدهورة منذ يونيو 2018 ، مقارنة مع 16 دولة وجدت أن ظروفها تتحسن.وقالت الدراسة ، التي أجرتها منظمة فريدوم هاوس  “إن حرية الإنترنت تتعرض للخطر على نحو متزايد بسبب أدوات وتكتيكات الاستبداد الرقمي”. “لقد استغلت الأنظمة القمعية والوظائف المنتخبة ذات الطموحات الاستبدادية والنشطاء الحزبيون عديمو الضمير المساحات غير الخاضعة للتنظيم في منصات التواصل الاجتماعي وتحويلها إلى أدوات تشويه سياسي وسيطرة مجتمعية”.

 اعتبارًا من عام 2019، تم تنفيذ عدد كبير و مقلق من القوانين القمعية لإعاقة الممارسة الحرة للحق في حرية التعبير على الإنترنت. 

إن الممارسات المتزايدة للمراقبة والسيطرة على الإنترنت أمر مروع، ويشكل انتهاكا صريحا للحقوق السياسية والمدنية وتهديداً لحقوق الإنسان والديمقراطية والسلام الدولي أيضا . إن الدول دائما ما توظف عملية صياغة القوانين التقييدية لتطبيقها على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ، من خلال تضمين عقوبات سالبة للحرية مصممة بإحكام ، وعليه فإن مشروع هذا القانون المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة  في المغرب ما إذا تم اعتماده بصيغته الحالية سينسجم إلى حد كبير مع ما يجري من ترويج محكم “للسلطوية الرقمية” كوسيلة للحكومات للسيطرة على مواطنيها من خلال التكنولوجيا، ذلك أن الخطوة الأولى في تصنيف الأنظمة التي أنها “سلطوية رقمية” تنطوي بشكل جلي على ما إذا كانت تستخدم بشكل روتيني وهادف مراقبة جماعية للانترنت دون ضمانات وحماية كافية، مما يتناقض مع مفهوم الإنترنت كمحرك للتحرر البشري، وتقويض قوة المشاركة المدنية عبر الإنترنت لمتابعة التغيير الديمقراطي ،و عدم توفير سبل لنشاط حقوق الإنسان ومنصات للتعبير والمشاركة السياسية ، فمع الصعود غير المسبوق للسلطوية الرقمية ، ستزداد خدمة مصالح القوى المعادية للديمقراطية من خلال الإكراه والمراقبة،كما سيُحرم المواطنين من منتدى للتعبير عن القيم المشتركة ومناقشة الأسئلة المتعلقة بالسياسة وتسوية النزاعات داخل المجتمع سلمياً،ويعزز من سلطة رجال المال والأعمال واللوبي الاقتصادي وقوى الفساد . و سيمكّن من الزيادة في قمع حركات الاحتجاج وانتهاك حقوق الإنسان.  على سبيل المثال، يمكن استخدام برامج مراقبة حركة المرور على الإنترنت للمساعدة في فرض رقابة على مواقع الأخبار الأجنبية وتتبع من ينشر على الإنترنت؛ وهذا يساهم في اعتقال الصحفيين والمدونين والكثير من المواطنين.

 إن هذا القانون سيمكن الدولة بدون شك من اعتماد المزيد من التقنيات الرقمية لمراقبة المواطنين بشكل أكثر شمولاً وبتكلفة أقل من أي وقت مضى.  ومع زيادة فعالية أنظمة المراقبة والتحكم الرقمية، تزداد الحوافز التي تقدمها الحكومة لدعمها،وعليه لن تؤدي الاستخدامات الفعالة للمراقبة عالية التقنية إلا إلى تشجيع الحكومة على زيادة الاستثمار في تحسين هذه الأنظمة وتوسيعها وتعميقها للتحكم أكثر والسيطرة أكثر على المعلومات في الفضاء السبراني ،وبالتالي تمكن هذه التقنيات بتركيز القوة في أيدي قلة ، بحكم أن هذه التقنيات الحديثة  أثبتت فعاليتها وكفاءتها في إطلاق حلقة من المراقبة الأعمق والأكثر انتشارًا.

وهذه السلطوية الرقمية تعد المحرض الأساسي في تقويض الديمقراطية. خصوصا و أن تجارب العديد من الحكومات السلطوية  أثبتت مدى نجاعة تقنيات الرقابة الرقمية بالمقارنة مع الحفاظ على شبكة واسعة من المخبرين ، وعليه قد يكون من الأرخص وأسرع بكثير تثبيت أدوات فحص حركة مرور الويب على كل بوابة إنترنت رئيسية في الدولة، بدلاً من تفصيل مخبرين في الشوارع ، وقد يكون من الأفضل أيضًا تتبع تحركات المواطنين من خلال التعرف على الوجه باعتماد الذكاء الاصطناعي.  يبدو أن العديد من السلطويين يراهنون على أن مراقبة التقنية العالية أفضل بكثير من بديلها البشري. 

في الوقت الراهن أضحت الأنظمة السلطوية التنافسية تتكيف مع تقنيات الاتصالات الرقمية بشكل كبير، إذ أقامت الحواجز و كرست الرقابة للسيطرة على تدفق المعلومات داخل أراضيها ، تستخدم المراقبة والهجمات الإلكترونية والمعلومات المضللة لتعزيز قوتها وتوسيعها خارج الحدود، وتتبادل أيضًا الأدوات والخبرات للتحكم في الإنترنت وتروج للأفكار حول كيفية إدارة التقنيات الرقمية على المستوى الدولي. و في ظل كل هذه الإجراءات ، تتعامل الدول السلطوية بشكل متزايد مع الشركات الخاصة التي تدير المنصات والبنية التحتية الرقمية وتوفر البرامجيات والخبرات الفنية للاعتماد عليها . باختصار ، تتشكل الممارسات السلطوية الرقمية في التعاون بين القطاعين العام والخاص وبين الدول ويتم نشرها وإضفاء الشرعية عليها وفي بيئات متعددة ومختلفة.

وفي الختام يمكن القول إن الديمقراطية الحقيقية تتطلب أن تكرس مجالًا أنترنيتيا/سبرانيا خاصًا محميًا،  مانع لأي انتهاك لمجموع البيانات الشخصية وقضايا الخصوصية ،وضمان الحق في الوصول إلى الإنترنت والمعلومات ، وحرية التعبير ،  والتي بدونها لا يمكن الحفاظ على السلام والازدهار والحرية – ثمار الحكم الديمقراطي- أو التمتع بها. سيحتاج المغرب إلى تطوير نموذج ديمقراطي للحكم الرقمي.  للقيام بذلك، سيحتاج قطاع التكنولوجيا و صنع السياسات والقوانين إلى تقديم نماذج مقنعة للمراقبة الرقمية التي توازن بين الحاجة إلى  الأمن مع الاستمرار في حماية الحريات المدنية وحقوق الإنسان. والانتصار لفكرة الإنترنت كمجال عام افتراضي يمكن أن يعزز الشفافية ويحقق المساءلة ويشكل علاقة أفضل بين الحكومة والمواطن، و خلق بيئة افتراضية لامركزية،وخلق شكل “أنقى” للديمقراطية حيث يتم سماع صوت الجميع وحيث يمكن الوصول إلى المعلومات ومشاركتها بحرية.

*محلل سياسي وأستاذ جامعي

Share
  • Link copied
المقال التالي