يحمل الاتفاق التجاري الأوّلي، الذي وقّعته الولايات المتحدة مع الصين، تحت اسم “اتفاق المرحلة الأولى”، في الخامس عشر من يناير 2020، الكثيرَ من المعاني والدلالات، سواء بالنسبة لاقتصادَيِ البلدين أو بالنسبة للاقتصاد العالمي ككل. كما يسوق هذا الاتفاق معه الكثير من التساؤلات بشأن ما يمكن أن يترتب عليه من نتائج إيجابية وسلبية، على المديين القصير والمتوسط، وما يمكن أن تئول إليه الأوضاع الاقتصادية على المدى البعيد، في حال تحوله إلى اتفاق تجاري شامل ومستدام بين البلدين، وكذلك في حال فشله، وعودة النزاع التجاري الثنائي إلى أشده من جديد.
نهاية مرحلة
أشعل الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” حربًا تجارية بين بلاده والصين، لدى قيامه في شهر مارس 2018 بفرض رسوم جمركية على واردات بلاده من الصلب والألومنيوم، بنسبة تبلغ 25% على واردات الصلب، و10% على واردات الألومنيوم. وبرغم أن الصين ليست الدولة الوحيدة المصدِّرة للصلب والألومنيوم إلى الولايات المتحدة، لكن موقعها بين هؤلاء المصدرين جعل منها الدولة الأولى المستهدفة بتلك الرسوم. فالصين هي المصدِّر الأول للصلب إلى الولايات المتحدة بقيمة صادرات تبلغ 14.2 مليار دولار سنويًّا، وبنسبة تصل إلى 32.8% من واردات الصلب الأمريكية، كما أنها ثاني أكبر مُصدِّر للألومنيوم إلى الولايات المتحدة بعد كندا، بصادرات تبلغ 3 مليارات، وبنسبة 12.5% من واردات الألومنيوم الأمريكية.
وبخلاف ذلك، فقد أدى توسع الصين في إنتاج الصلب والألومنيوم وتصديرهما بكثافة إلى تراجع نصيب الولايات المتحدة من السوق العالمية للمعدنيين. فقبل أن يشرع “ترامب” في اتخاذ قراره ذلك، كان الإنتاج الأمريكي من الصلب والألومنيوم قد تراجع لصالح الصين، حيث انخفض الإنتاج الأمريكي من الصلب من 112 مليون طن، إلى 81.7 مليون طن خلال الفترة 2000-2017، كما انخفض الإنتاج الأمريكي من الألومنيوم من 3.7 ملايين طن متري إلى 740 ألف طن متري. لكن -في الوقت ذاته- فقد ارتفع الإنتاج الصيني من المعدنين من 127.2 مليون طن إلى 831.7 مليون طن، ومن 2.8 مليون طن متري إلى 35.9 مليون طن متري، على التوالي.
وبرغم أن القرار الأمريكي بفرض رسوم على الصلب والألومنيوم تسبب في ردود أفعال عالمية، لكن الأضرار الكبيرة التي لحقت بالصين جعلت منها الدولة صاحبة الرد الأقوى في مواجهة القرار الأمريكي، فقامت بفرض رسوم جمركية على وارداتها من المنتجات الأمريكية كإجراء انتقامي. ومن ثمّ تبادلت الدولتان إجراءات انتقامية متتالية، ما تسبب في تحميل اقتصادَيِ البلدين أعباء ثقيلة على مدى ما يقرب من عامين. فقد ساهمت الحرب التجارية في تفاقم أزمة تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، وبلوغه مستوى 6.1% في عام 2019، وهو أضعف مستوى له منذ عقود طويلة. وفي المقابل، فقد ساهمت الحرب التجارية في تراجع أداء الاقتصاد الأمريكي بشكل ملحوظ، والذي انخفض نموّه إلى أقل من 2%، كما تراجع نشاط قطاع التصنيع به في عام 2019 إلى أقل مستوى له منذ نحو 10 سنوات.
ونتيجة للمكانة المحورية للاقتصادين الأمريكي والصيني في الاقتصاد العالمي، باعتبارهما صاحبي المرتبتين الأولى والثانية عالميًّا من حيث الحجم، فقد تسبب النزاع التجاري بينهما في توليد ضغوط شديدة وانعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي ككل. ووفق البنك الدولي فقد أفقدت الحرب التجارية الأمريكية-الصينية الاقتصاد العالمي نحو 0.8% من ناتجه المحلي الإجمالي خلال العامين الأخيرين.
وفي ظل هذه الظروف، فإن تمكن الولايات المتحدة والصين من إبرام اتفاق تجاري، وإن كان اتفاقًا أوليًّا، فإنه يثير تساؤلات عديدة، أهمها هو ما إذا كان هذا الاتفاق يمثل بداية حقيقية لنهاية الصراع التجاري بين البلدين؟ أم إنه لن يكون أكثر من تطور مؤقت مصيره الانهيار لتعود الدولتان إلى نزاعاتهما مجددًا؟.
استمرار الضبابية
تعتمد الإجابة على التساؤلات المتعلقة بمستقبل العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل الاتفاق الأخير، أو بكلمات أخرى التساؤلات المتعلقة بمستقبل الاتفاق ذاته، على عوامل عديدة، أهمها: طبيعة هذا الاتفاق، ومدى التزام الطرفين ببنوده، بالإضافة إلى مدى تمسك وحرص كلٍّ من الطرفين على إتمام المراحل التالية، أي اتفاق المرحلة الثانية وما بعدها، حتى يتحول الاتفاق التجاري إلى اتفاقٍ شاملٍ وقادرٍ على الصمود على المدى الطويل.
وفيما يتعلّق بطبيعة الاتفاق المبرم، فإن ما أُعلِن بشأنه حتى الآن، ينص على تخفيض جزئي للرسوم الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة والصين على وارداتهما من بعضهما. وبعد التخفيض المتفق عليه ستُبقي الولايات المتحدة رسومًا على 65% من قيمة وارداتها من الصين، وستُبقي الصين رسومًا على ما نسبته 57% من قيمة وارداتها من المنتجات الأمريكية. ويعني ذلك أن البنود المتعلقة بتخفيض الرسوم الجمركية ضمن الاتفاق المبرم حتى الآن ما زالت بعيدةً كثيرًا عن سقف الطموحات، وأن تأثيرها لن يكون كبيرًا على التبادل التجاري بين البلدين، حتى وإن تم الالتزام به كليًّا من قبلهما.
وبجانب ذلك، فقد تضمّن الاتفاق المبرم بندًا وافقت الصين بمقتضاه على شراء ما قيمته 200 مليار دولار إضافية من المنتجات الأمريكية على مدى عامين، وتشمل هذه المشتريات منتجات زراعية ومنتجات طاقة، وكذلك بعض المنتجات الخدمية. وبطبيعة الحال، فإن الهدف الكامن وراء مثل هذا البند هو تخفيض العجز التجاري الأمريكي تجاه الصين، بما يحقق بعض المطالب التي طالما نادى بها الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” منذ توليه منصبه. لكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه على الرغم من الموافقة الصينية على شراء تلك المنتجات الأمريكية الإضافية، فالغموض يحيط بكيفية تطبيق ذلك. فمن ناحية لم يتضمن الاتفاق توضيحًا لهذه الكيفية، ومن ناحية أخرى فقد أعلنت الصين بعد إبرام الاتفاق أن “الشركات الصينية ستستورد تلك المنتجات الأمريكية وفقًا لما تُمليه حاجة المستهلكين، ووفقًا لقواعد العرض والطلب في السوق الصينية”، وقد جاء ذلك على لسان “ليو خه” نائب رئيس الوزراء الصيني. ويعني ذلك أن الصين ستُخضع تنفيذ هذا البند لشروط قد تُفرِغه من مضمونه، وهو أمر متوقع إلى حدٍّ بعيد، لا سيما في الأجل القصير، إذ ما زالت حالة الريبة والشك مسيطرة على علاقة البلدين، وهي لن تنقشع دون أن يتمكّنا من المحافظة على حالة “اللا نزاع”، وأن يتمكّنا من بناء جدار الثقة فيما بينهما من جديد.
كما تضمن الاتفاق بنودًا أخرى بشأن حقوق الملكية الفكرية، وبشأن “النقل القسري” للتقنيات، بجانب أحكام تتعلق بتسوية الخلافات التجارية بين البلدين. لكن لا يبدو أن هذه البنود تحمل الكثير بالنسبة لمضمون الاتفاق، كما أنها لن تكون ملزمة للطرفين بأي حال، خصوصًا في ظل عدم تضمن الاتفاق لأي بنود واضحة وملزمة بشأن تسوية خلافات جوهرية كقضية العملة الصينية، التي ترى الإدارة الأمريكية أنها مُقيَّمة بأقل من قيمتها، في وقت تُنكِر فيه الحكومة الصينية ذلك، وترفض الضغوط الأمريكية المستمرة من أجل رفع قيمة العملة، بل إن الرفض الصيني دفع الولايات المتحدة إلى تغيير سياستها النقدية خلال الأشهر الأخيرة، فشرع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في تخفيض أسعار الفائدة، لدفع الدولار الأمريكي إلى الانخفاض، كآلية لدعم الصادرات الأمريكية في مواجهة الصادرات الصينية.
عقبات ومحاذير
يعقد صندوق النقد الدولي وغيره من المنظمات الاقتصادية الدولية آمالًا كبيرة على الاتفاق الأمريكي الصيني المبرم مؤخرًا، على اعتبار أنه يُقلل من حدة عدم اليقين التي تُخيّم على النمو الاقتصادي العالمي، وذلك كما صرحت “كريستالينا جورجيفا” المديرة التنفيذية لصندوق النقد تعليقًا على الاتفاق. والسؤال هنا هو عمّا إن كان من الممكن التعويل على الاتفاق الأمريكي-الصيني الأخير لتحقيق ما هو منشود.
وفي معرض الإجابة على هذا التساؤل الهام، ووفق التقديرات المشار إليها سابقًا، فبافتراض وفاء الولايات المتحدة والصين باتفاقهما ذلك، ونجاحهما كذلك في إبرام اتفاقات المراحل التالية، وبالتالي تسوية نزاعاتهما التجارية كليًّا؛ فإن ذلك سيُفضي إلى زيادة النمو العالمي بـمقدار 0.8 نقطة مئوية، أو ما يعادل 700 مليار دولار سنويًّا. وبرغم أهمية ذلك، والدلالة الإيجابية منه؛ لكن تحقيق زيادة الناتج العالمي المأمولة من الاتفاق ليست مرهونة فقط بالزيادة المتوقعة في التبادل التجاري المباشر بين الولايات المتحدة والصين بناء على الاتفاق، لكنّ نسبة الثلثين من تلك الزيادة (وفق تقديرات صندوق النقد) ستكون مرهونة باستثمارات الشركات الأمريكية والصينية في أسواق كلٍّ منهما.
ختامًا، تبقى هناك عقبات صعبة أمام تحقق ما هو منشود من الاتفاق التجاري الأمريكي-الصيني، في ظل التوجه السلبي للإدارة الأمريكية تجاه الشركات الصينية، والصبغة الأيديولوجية المسيطرة على توجهات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تجاه الصين، والتي ستُعيق الشركات الصينية من العمل في الولايات المتحدة، وتدفع الصين إلى تبنّي سياسات انتقامية تجاه الشركات الأمريكية، وهذا الأمر يُقلل من فرص تحقق المزايا الاقتصادية المنشودة من الاتفاق، ويُبقي على الضبابية المحيطة بالاقتصاد العالمي لفترة غير قصيرة.
تعليقات الزوار ( 0 )