شارك المقال
  • تم النسخ

عبوديّة اللغة

في العربية مثلما في لغات طبيعية أخرى، نستعمل تركيبا نسمّيه «النسبة» وهو أن ننسب شيئا إلى آخر من باب التعريف به، وقديما كانت النسبة الكبرى إلى القبيلة، ثمّ صارت إلى الأسرة فالمدينة. وتبدو النسبة في العربية إجراء يسيرا، إذ يكفي أن تضيف إلى الاسم ياء مضعّفة تسمّى «ياء النسبة» فتقول (تونسيّ) أو (سنّي) أو (يساريّ).. لكي يفهم المستمع إليك أنّك نسبت ذاتا إلى بلدها، أو إلى مذهبها، أو إلى أيديولوجيتها. فالحاجة إلى النسبة تبدو وظيفيّة إذ تمكّن من تعريف الشخص الذي لا تعرف عنه الشيء الكثير بسمة تبدو كالثابتة فيه، وتستعملها أنت لتمييزه، أو لتعيينه بشيء يمكن أن تكون له سمة، ولكنّها تجمعه مع غيره فيها. هكذا ينسبوننا دائما لكي نلتحق بمجموعة أكبر يمكن أن تشملنا مع غيرنا، وغالبا ما استعملت النسبة في كثير من الأحيان لأغراض سياسيّة ودينية أو غيرها جعلتها ركنا من أركان التعريف والتصنيف والمقولة التي قد تكون أحيانا مُغرضة أو كيدية.

إنّ النسبة هي علاقة قبل كلّ شيء بين طرفين يشترك كلّ واحد منهما مع غيره ومن جهته في حقيقة، أو صفة وتسمّى تلك العلاقة علاقة نسبيّة. هي علاقة تجمع في الغالب بين ذاتين في انتساب إلى معنى جامع من نوع المحلّية في قولك (تونسي) التي تجمع بين حالّ في المكان ومحلّ هو الذي يحلّ فيه ذاك الحالّ.

لقد اعتنى النحاة والفلاسفة، كلّ منهما بطريقته بمعنى النسبة، فالكلام المبسّط الذي قلناه سابقا قد نجده بشيء من الكثافة في قول الفارابي في كتاب «الحروف»، إذ يقول مسمّيا طرفي العلاقة بين طرفي النسبة بالمُضافين: «فشريطة المُضافين أن يكون كلّ واحد منهما أُخذ مدلولا عليه باسمه الدالّ عليه من حيث له ذلك النوع من الإضافة» (كتاب الحروف). فقولك (أنا تونسيّ) هي عبارة تختزل علاقة نسبة أو إضافة ينبغي أن يعبّر عنها بذكر لفظي العلاقة وهي الحالّ والمحلّ، وهما طرفا العلاقة النسبية وقد صيغا بألفاظ تلك العلاقة وهو الحلول في المكان هذا هو الأصل في العلاقة. وحين نقول (غلام زيد) – وهذا ضرب آخر من علاقة الإضافة أو النسبة- فإنّ هذه الجملة تخفي الكثير من المعطيات التي كان من الممكن أن تذكر فعبارة (غلام زيد) تختصر علاقة نسبيّة تتمثّل في مملوكيّة الغلام، وفي مالكيّة زيد، وأنّ في قولك ذلك اختصارا لعلاقة صريحة مفادها، أن الغلام مملوك لزيد وزيد مالكه. وقس على ذلك أيّ علاقة إضافيّة من هذا الضرب هي، حسب الفارابي لا تصرّح بالعلاقة التي تربط المتضايفين ولا بالألفاظ التي تصاغ من تلك العلاقة وتسمّي الطرفين (المالكية، المملوكية).

ويعتبر الفارابي أن في ذلك تسامحا ويعني بالتسامح قلّة في الدقّة فيقول: «أمّا الجمهور والخطباء والشعراء فيتسامحون في العبارة ويجوّزون فيها» (المصدر نفسه). وهذا يعني أن قولي تونسي هو تسمية لذاتي المنتسبة إلى بلدي، وليس في العبارة تصريح بنوع العلاقة (الحالُّ والمحلّ) وأنّ في قول العرب قديما (غلام زيد) تسمية للطرفين بغير، واسم العلاقة التي تجمعهما هي الملكية.

يقول الفارابي بلغته المناسبة لعصره ما قالته فئة من الفلاسفة من أن اللغة اليومية لا تصلح – لقلّة دقتها – أن تكون لغة العلوم، ولا لغة الفلسفة والمنطق، لأنّ المتكلمين اختصروها وفرطوا في دقّتها وتسامحوا في اتساعها. ومعلوم أن الفلسفة التحليلية المعاصرة ناقضت هذا المذهب، واعتبرت الإشكال في سوء فهم اللغة اليومية وليس في تقصيرها وتسامحها وعدم دقّتها

إنّ من شأن العلاقة النسبية أنّها تختصر كثيرا من الكلام في علاقة تركيبية معلومة بالإضافة إلى أنّها تجعل تلك العلاقة مجرّدة ومضمرة، فبدلا من أن نصرّح بمعنى النسبة والملكية نحن نضمرها، ولكن نفهمهما من سياق الكلام، وهذا يعني أنّي أفهم من (تونسي) معنى النسبة ضمنا وأفهم من (قلم هند) علاقة الملكية ضمنا أيضا لكأنّنا نصرّح بشي ونفهم شيئا آخر يقتضيه.

العلاقات تبدأ بالقرابة فهذه أمّ العلاقات، بأن تنتسب إلى أبيك أو أخيك نسبة لا تعرّفك في الحقيقة، ولكن تجمعك معه في لفيف نسب واحد. حين أقول (أنا أخو زيد) فإنّ إضافتي إلى أخي زيد لن تعطيني التعريف الذي كنت أفقده قبل أن أتعرّف بهذه النسبة، فأنا أتعرّف تعريفا أوّليّا حين أقف أمامك وأقول في أيّ سياق من كلامي إليك (أنا) أو أحد مرادفاتها. يحيل الضمير (أنا) عليّ ذاتا معروفة بالمقام الحضوري لديك. أن تقول (أنا) فهذا لا يعني أنّك تعلن عن ذاتك من بين ذوات فقط، بل يعني أنّك أيضا وأنت تعلن عن ذاتك تقيم علاقة مع (أنت) الذي في المقام ومع (هو) الغائب عنه؛ إنّها علاقة ثلاثية بين من يتكلم ومن يسمع ومن هو غائب عن مقام الحضور. لكن ما الذي يحدث حين أقول (أنا أخو زيد) أو (أنا زوج هند) أو (أنا علوي)؟ ما يحدث هو تأسيس نوع آخر من النسبة هي النسبة الإخبارية (أو الإسنادية) التي تجعلك موضوع حكاية. حين تخبر عن نفسك بأنك أخو زيد أو أنك زوج هند فإنّ النسبة جمعت بين طرفين كبيرين هما (أنا) المخبر عنه أو المنسوب إليه و( أخو زيد) الخبر أو موضوع النسبة. حين تخبر عن نفسك بأنك أخ لزيد أنت لا تكتفي بأن تتعرف به أو تنتسب إليه، بل إنّك بنيت كلاما كنت فيه موضوعَ حديث؛ وحين تكون موضوع حديث فإنّك تعرّفت بذلك الحديث الذي فيه أنّك أخو زيد بفحوى وزوج لهند وهذه معلومات مهمّة لمن أراد أن يعرف عنك معطيات أو وضعيّات بواسطة الإخبار.

في رواية «الياطر» لحنا مينه تبدأ الشخصية بداية بسيطة بعلاقة إسنادية نسبية تكفلت بنسبة الذات إلى معطيات فيها نسبٌ غير معلوم في القصّ، إذ يقول السارد (أنا زكريا المرسنلّي). النسبة الإسنادية في هذا القول تكفلت بالتعريف فقد صنعت من الاسم العلم المركب (زكريا المرسنلّي) خبرا للضمير (أنا) فأخبرت الشخصية عن نفسها باسمها في ضرب من الإخبار برقيّ. في الأسطر الأولى من هذه الرواية كثير من الأسماء المنسوبة نسبة غير معلومة (المرسنلّي: زكريا: الأب وفؤاد الابن: القاتل) و(حسن الجريدي) المقتول.. كثير من أسماء النسبة باتت نسبتها خاوية لا تعنينا في هذه الحكاية، لأنّها تلعب أدوارا واسمة فلسنا نعلم من (الجريدي) مثلا علما غير معناه اللغوي وهو لا يعني لنا شيئا كثيرا من جهة معناه النسبي. النسبة الحقيقية هي النسبة الإسنادية أو الإخبارية، لأنّها صنعت الكلام فأخبرتنا بأنّ الابن قاتل.. لكنّ النسبة الحية هي النسبة التي بين زكريا وفؤاد: نسبة دم قريب هي التي تجعلنا نكتشف رواية القتل من بوابة حميمة هي بوابة الأب. اعتمادا على الإسناد تنشأ في الخطاب علاقة نسبية هي العلاقة بين القاتل والمقتول.

خلاصة الأمر أن النسبة في اللغة ليست مجرّد علاقة بين طرفين جمعا بواسطة ياء النسبة، أو بواسطة علاقة الإضافة أو حتى الإسناد، النسبة شيء عقليّ ينشأ بالتدرج من بناء علاقة متشابكة بين ذاتين أو بين ذات وحدث أو أحداث أو صفات حتى نبني في الذهن حكاية ننسبها إلى مكان، أو إلى شخص أو إلى زمان هي في الحقيقة تتحدّد بالنسبة إليّ أو إليك أو إليه باعتبار كلّ واحد منّا مركزا لكون يبدأ منّا ويحاول استيعاب بقية الكيانات والأحداث والصفات. إلى النسبة هي بعبارة أخرى علاقة بين المتكلم والكون في اختصاص ما. يعلّمنا درس النسبة في اللغة أنّه إن كان للعالم أن يحرّرنا من كلّ شيء، فإنّه لن يحرّرنا من عبوديّة لغوية أبديّة تطلّ علينا من ثنايا علاقات النسب اللغويّة المتشعبة في كلامنا اليوميّ، والدالة على أنّنا عالقون في أنسابنا الأولى.

*أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي